سألوه عن الدنيا فقال: «الدنيا سجن المؤمن، وأعظم أعماله في السجن الصبر وكظم الغيظ، وليس للمؤمن في الدنيا دولة، وإنما دولته في الآخرة». هو عبد الله بن المبارك أبو عبد الرحمن المروزي، ولد سنة 118 ه بمرو في خراسان، وحفظ القرآن، ودرس الفقه والحديث، وألم باللغة العربية، بلاغة ونحواً وصرفاً. ولما بلغ الثالثة والعشرين رحل إلى بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، واستقر فيها، وغادرها مرات للحج والجهاد. مِنْ أجل أهل زمنه وأعلاهم المتميزين بالخصال الحميدة. فتح عقله لكل المعارف. لم يجنح به زهده إلى ما يخالف شرع ربه. تجاذبه الجميع، فضمه السلفيون إلى طليعة «أهل السنة والجماعة» لفقهه وروايته للحديث، وجذبه المتصوفة إلى ساحتهم لزهده وورعه وكراماته. جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع والإنصاف وقيام الليل والعباة والحج والغزوة والفروسية والشجاعة والشدة في بدنه وترك الكلام في ما لا يعنيه، وقلة الخلاف على أصحابه. كان فيه خصال لم تجتمع في أحد من أهل العلم في زمان في الأرض كلها، وما خلق الله خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها فيه. وكان الزهد القيمة الأسمى في مسلك ابن المبارك واعتقاده، فقد آمن بأن الزهاد هم الملوك الحقيقيون، وأن «سلطان الزهد أعظم من سلطان الرعية، لأن سلطان الرعية لا يجمع الناس إلا بالعصا، والزاهد ينفر من الناس فيتبعوه» والزهد عنده يجب أن يكون عميقاً ودقيقاً، متجسداً في الأعمال لا في الأقوال، فقد كان ينصح من يتبعه: «دعواك الزهد لنفسك يخرجك من الزهد»، وكان يردد دوماً: «لأن أرد درهماً من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بستمائة ألف» وتتجلى دقة حساب النفس على كل صغيرة، وإمالتها على كل ما يفضي إلى الزهد والورع، في قوله أيضاً: «لو أن رجلاً اتقى مائة شيء، ولم يتورع عن شي واحد، لم يكن ورعاً، ومن كان فيه خلة من الجهل، كان من الجاهلين» وكان يقول كذلك: «كيف يدعي رجل أنه أكثر علماً، وهو أقل خوفاً وزهداً».. وشهد له الناس بهذه العناية وهذا الحرص الشديد على تجنب أي قدر من حرام حتى ولو كان تافهاً أو صغيراً. وكان ابن المبارك مجاهداً في سبيل الله بنفسه وماله ومعرفته، إذ رابط في الثغور طويلاً، وكان يحج عاماً ويغزو عاماً، وما نزل بلداً في رحلته لطلب العلم ثم سمع منادي الجهاد الا تجهز وخرج. وطالما دعا الناس إلى نصرة دين الله، حتى تصبح كلمة الله هي العليا في الأرض. وكان يعيب على النساك والزهاد قعودهم عن الجهاد، وسوء فهمهم لمعنى العبادة.. وكل من حوله لاحظوا فيه أنه كلما ازداد علمًا، ازداد خوفًا من الله وزهدًا في الدنيا، وكان إذا قرأ أحد كتب الوعظ يذكره بالآخرة وبالجنة والنار، وبالوقوف بين يدي الله للحساب، بكى بكاء شديدًا، واقشعر جسمه، وارتعدت فرائصه، وسرى في نفسه حزن، ولا يكاد يتكلم أحد معه. ولم يكن زهد ابن المبارك وتصوفه يجافي مذهب «أهل السنة والجماعة»، بل على النقيض من ذلك كانت له مواقف صارمة من أهل البدع والأهواء، وهو موقف المؤمن الواعي لما يدور حوله وما يحاك من الدس والتشويه والتحريف لعقيدة المسلمين، لذلك نجده يوصي أحد تلامذته فيقول: «ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة». وكان يقول: «أهل الدينا خرجوا منها قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها» فسأله الناس: «وما أطيب ما فيها»، فأجاب: «المعرفة بالله عز وجل» وفي مثل هذا اليوم من شهر رمضان سنة 181ه تُوفي عبد الله بن المبارك، وهو راجع من الجهاد، وكان عمره 63 عامًا. ولما بلغ هارون الرشيد نبأ موته، قال: «مات اليوم سيد العلماء».