شريف عبدالرحمن سيف النصر عندما تفتق الذهن البشري عن نموذج "الديمقراطية النيابية" كان الدافع إليه أن نموذج "الديمقراطية المباشرة" لم يستطع أن يفي بأغراض الشعوب. فالناس لا يمكنها أن تتجمع في الميادين والشوارع بالملايين لكي تفصح عن إرادتها، وحتى إذا كان ذلك ممكنا فإن مناقشة أي قرار وسط الآلاف المؤلفة من البشر لا يمكن أن يسفر عن نتائج ذات معنى، كما أن التعبير المباشر عن وجهات النظر السياسية يتضمن احتمال المواجهة بين المختلفين. فكما سينزل المؤيدون سينزل المعارضون، وهنا لن يكون النقاش هو سبيل الإقناع وإنما القدرة على إحداث أكبر قدر من الأذى بالخصم. ومن هنا حلت صناديق الانتخابات محل المواجهات، وحلت فكرة اختيار نواب عن الشعب محل التعبير المباشر عن وجهات النظر، وظل هذا الأمر محل اتفاق بوصفه الأسلوب الأقرب إلى السلمية في المجتمعات المتحضرة. ولكن القوى السياسية في مصر قررت أن تخالف هذه القناعات، فعادت خلال الأيام الماضية إلى الشارع لممارسة الديمقراطية المباشرة من جديد، متجاوزة بذلك تراثا إنسانيا لم يصل إلى ما وصل إليه من تفضيل الأسلوب النيابي إلا بعد أن خبر مخاطر وأخطاء ديمقراطية الشارع. ليس هذا فحسب ولكن الديمقراطية المصرية أضافت إلى العيوب السابقة عيبا إضافيا وهو اعتمادها بشكل شبه كامل على كاميرات الإعلام، فأضفت بذلك بعدا استعراضيا، يستبدل أصوات الناخبين بحضورهم المباشر والشخصي، ثم ملاحقتهم بالكاميرات لالتقاط حركتهم وإبراز حشودهم. ولكن كاميرات الفضائيات وهي تفعل ذلك فإنها تمارس تحيزات نابعة من تفضيلاتها السياسية ومن مصادر التمويل التي تعتمد عليها، ولذا فإنها لا تظهر الحشود المتقابلة بنفس النسبة، ولا تقدم تغطية متوازنة لها، وإنما تحرص على إبراز كثرة من تؤيدهم، وضآلة من تعارضهم. هذه المتاجرة بمناظر الحشود بهدف إحراز نقاط سياسية تلهب مشاعر المزيد من الناس وتدفعهم للنزول والاعتصام بالميادين دعما لمؤيديهم. في الديمقراطية على الطريقة المصرية إذن صار الإعلام جزءا من المنازلة السياسية، مهمته الأساسية هي محاصرة الإسلام السياسي على نحو كامل، وذلك للتغلب على معضلة التفوق الانتخابي للإسلاميين، فتم استدراجهم إلى ميدان منازلة جديدة، يفقدون فيها ميزتهم الأساسية، أما إعلان نتائج هذه المنازلة فلا يتم في لجان فرز الأصوات ولكن في أستديوهات التوك شو والبرامج الحوارية، وفي كل الأحوال تكون النتيجة معلنة مسبقاً، وهي انتصار الكتل المعارضة بالأغلبية الساحقة، بعد أن يستبدل اسمها لكي تتم الإشارة إليها باسم "الشعب"، فلا تصبح مجرد قوى معارضة ولكنها تصبح الشعب نفسه، كما لو كانت الأطراف الأخرى غير موجودة في المشهد أصلاً. نزول المعارضين إلى الشوارع، ودخول الإعلام على الخط ليسا أغرب ظواهر الديمقراطية المصرية، فالأغرب بحق أن الجماهير التي نزلت إلى الشوارع، واعتصمت بالإعلام، ورفضت الاحتكام إلى الصناديق، فعلت كل ذلك لا لكي تحافظ على إرادتها حرة، ولا لكي تمتلك قرارها بأيديها، ولكن من أجل أن تستنجد بالعسكريين وتأتي بهم إلى الحكم، وكأننا أمام نسخة من الديمقراطية الفاشية، التي تقبل ما يفرضه العسكر وترفض ما تفرضه إرادة الأغلبية. ولذا فقد كانت قمة الدراما في الديمقراطية المصرية أن يحتفي المتظاهرون المدنيون، بعودة الجيش إلى المشهد السياسي، وأن يتطلع الكثير إلى أن يحتكر الجيش السلطة، ويقضي على تجربة التحول الديمقراطي المدني بكافة تفاصيلها. وقد شارك في هذا العرض الهزلي كثير من القوى الثورية التي التهبت حناجرها ذات يوم بالنداء الشهير "يسقط حكم العسكر"، هذه أيضا أصبحت لا تمانع في عودة الجيش إلى السلطة مرة أخرى، من أجل أن يبدأ مرحلة انتقالية جديدة، تدوم لعدة أشهر أو بضع سنوات. لقد كان بالإمكان أن تنتظم القوى الرافضة لحكم الإخوان أمام صناديق الاقتراع في الانتخابات البرلمانية القريبة جدا، لتعبر عن رأيها بشكل سلمي ومتحضر، فتحصد أغلبية المقاعد وتشكل حكومة جديدة، يتولى رئيسها إدارة معظم الملفات السياسية، ويشارك رئيس الدولة في العديد من اختصاصاته، ولكن هذه القوى أبت إلا أن تختار أكثر الأشكال صخباً للتعبير عن رفضها للأداء السياسي للرئاسة والجماعة، ألا وهو النزول إلى الشوارع، مدعومين بكاميرات الفضائيات، التي لاحقتهم وثبتت صور خلفياتها على مشاهد الميادين وهي ممتلئة بهم، وكأنها تقرر بذلك سابقة سياسية، يتعين على المعارضين في المستقبل أن يحتذوها للتعبير عن رفضهم، وهي أن المباراة السياسية يحسمها الطرف الأقدر على إحداث أكبر قدر من الصخب. إلا أن هذا الأسلوب هو بالضبط ما يجعل المباراة بلا قواعد، فإعلان المغلوب أنه لن يكمل المباراة حتى تتغير قواعد اللعبة بما يضمن له الفوز، أو طلبه من جمهوره أن ينزل إلى أرض الملعب قبل أن تنتهي المباراة أو حتى يستعين بالصديق القوي (المؤسسة العسكرية) للمساعدة في تطويع النتيجة، كل هذه السيناريوهات تنزع عن عملية تداول السلطة شكلها المؤسسي وتتحول بها إلى نمط فوضوي لا يمكن تكراره في المستقبل. إشارة أخيرة تحملها ظاهرة التظاهرات أمام الكاميرات تتمثل في الإيحاء بأن الديمقراطية المصرية لم تكن أكثر من تمثيلية؛ تظاهر البعض باحترامها ولكنهم عند الجد أعلنوا عن قناعاتهم الحقيقية إزاءها، وهي أن احترامهم لها لم يكن أكثر من ادعاء. فالمثقفون والنخبة الذين صدعوا رؤوس الناس بالحديث عن الشرعية الدستورية، يستخدمون منابر الفضائيات للحديث عن شرعية جديدة تصنع في الشوارع والميادين، أما القوى الثورية فهي ترحب بتدخل المؤسسة العسكرية، وتحضّر لتسليم الجيش مسؤولية البلاد. وكأنها بذلك تعبر عن قناعاتها بأن الإجراءات الدستورية التي انخرطت وشاركت فيها لم تكن أكثر من حبر على ورق، وأن المسار السياسي تحكمه لغة القوة في المقام الأول، فالمشروعية وفقا لها تخرج من فوهة المدفع، وليس من خلال إرادة الشعب بأي شكل من الأشكال. نقلا عن صحيفة الحياة