أظن أنه بعد الإسراع بالتحقيق مع رئيس الجمهورية ونجليه ومن قبل ذلك حبس معظم الرموز التى كانت فاعلة فى النظام السابق، ، يمكننا الآن أن نتأكد أن ما أطلق عليه تباطؤ الإجراءات التى يتخذها المجلس الأعلى للقوات المسلحة لم يكن سوى تأنيا حكيما من جانب تلك المؤسسة الوطنية العريقة حرصا منها على سلامة تلك الإجراءات من الناحية القانونية والسياسية وحرصا على صورتنا الرائعة كشعب متحضر، تلك الصورة التى رسمتها تصرفات المصريين فى ميدان التحرير وفى كل ميادين مصر المحروسة على مدى ثمان عشر يوما منذ الخامس والعشرين من يناير وحتى الحادى عشر من فبراير، ففى تلك المدة وبعدها وعبر اللقاءات التى أجريت مع قادة الجيش تأكد لكل ذى عينين أننا أمام قادة عظام يجسدون حضارة مصر كبلد عريق ، لقد لاحظنا كيف أن هؤلاء القادة يعرفون كل أسماء كتاب الرأى فى الصحافة المصرية و كيف أنهم يشيرون فى أحاديثهم إلى كتابات ومقالات كنا نظن أن انشغالهم بالحياة العسكرية يجعلهم بعيدين عنها و عن كل ذلك الصخب الفكرى الذى كان يعصف بالنخبة المصرية فى أبراجها العاجية فأدهشونا بأنهم لم يكونوا مجرد مطلعين فقط ولكنهم كانوا أيضا دارسين مجتهدين للحالة الفكرية والثقافية بكل أبعادها ، وهذا طبعا لا ينفى كما قلت فى مقال سابق اختلافنا مع بعض رؤاهم ولكن ذلك لا يمنعنا من أم نعبر عن إعجابنا بهذا القدر من التحضر لدى هؤلاء العسكريين الذين أثبتوا أنهم أكثر مدنية من كثير من المتشدقين بالحرية والليبرالية، لقد كان من حسن حظى أن قابلت المرحوم اللواء صلاح الدين سليم فى مؤتمر أدباء مصر بالمنيا منذ عدة سنوات وقلت له مداعبا بعد أن استمعت لمحاضرته الرائعة عن الأمن القومى المصرى " لم أكن أعلم أن لدي القوات المسلحة مفكرين عظام مثلك" ، فابتسم دون أن يعلق على كلامى وكأنه أراد أن يقول لى أننى مخطىء فى تصورى وكان على أن انتظر كل تلك السنوات لأدرك أن المرحوم صلاح الدين سليم لم يكن إلا واحدا من الضباط المثقفين الوطنيين الشرفاء التى أظهرت أحداث ثورة يناير أنهم يشكلون الروح العظيم لجيش لا ينتمى سوى لمصر و الشعب المصرى ولا يعرف الولاء للأشخاص إلا فى حدود الولاء الأعظم للوطن. ما الذى يتبقى إذن لكى نغادر تلك الحالة من التشكك فى قدراتنا على المضى قدما فى انجاز الثورة الوطنية الديموقراطية رغم وجود ضمانة قوية للتحول الديموقراطى متمثلة فى هذا الجيش العظيم، فى ظنى أن الدور المفقود هو دور الإعلام الرسمى والخاص لأن الإعلام بوضعه الحالى يبدو عاجزا عن بلورة رسالة قوية توجه الجماهير ناحية إعادة البناء المنظم بعد أن انهارات الكثير من المؤسسات بسبب تفشى المحسوبية والرشوة فى نظام الحكم السابق ، وبسبب أن الأمن هو الذى كان يساهم بالجزء الأكبر فى بناء معظم المؤسسات العامة وفى ظنى أيضا أن على هذه الرسالة الإعلامية الجديدة أن تغادر حالتها الراهنة التى تتمحور حول إثارة أدنى غرائز التشفى أو الرغبة فى الحصول على أى سبق إعلامى بغض النظر عن تفاهته كإصرار أحد المذيعين على معرفة هل كان الرئيس السابق مصابا بالسرطان من عدمه، هذا ناهيك عن تعبير بعض القنوات عن مصالح ضيقة بغض النظر عن المصلحة الوطنية العامة كانشغالها بتسويق أشخاص بعينهم على خلفية الانتخابات الرئاسية المحتملة ومن المثير للاشمئزاز فى هذا السياق تملق تلك القنوات لقادة الإخوان المسلمين على حساب الاتجاهات السياسية الأخرى ، فلم يعد يخلوا برنامج من رموز الإخوان وكأننا استبدلنا عناصر الحزب الوطنى بهم بعد أن أصبح الأخير بدوره " كيانا شبه محظور" ، وقد أزعجنى هذا التحول فى صورة بعض ممن أكن لهم قدرا من الاحترام من جماعة الإخوان المسلمين كالدكتور عصام العريان ، حين فوجئت به وكان ضيفا على أحد البرامج يوجه هو الحديث بنفسه حتى مع المداخلات التليفونية كأنه قائد عسكرى ناهيك عن وضع جلسته وهو يضع ساق على ساق وهذه العادة ليست عيبا بالقطع غير أننى لم أعهدها فيه من قبل، وطبعا اختفت المساحة الإعلامية التى كانت تغدقها تلك القنوات على شباب الثورة وحلت محلها رموز عصر السادات الذين يعودون الآن وكأنهم لم يكونوا مسئولين عن عهد الرئيس السابق حسنى مبارك، الذى نبتت بذرته فى التربة الملوثة لعهد ثورة مايو المضادة لثورة يوليو ،بل أكاد أقول أن رموز القوات المسلحة غابت عن المشهد الإعلامى نسبيا لفترة كبيرة بمنطق تسارع الأحداث فى الوقت الحالى إذ كان حضورها الإعلامى قويا فور تنحى الرئيس ولم تعد ثانية للمشهد بنفس القوة إلا بعد أحداث فض الاعتصام بعد أن اتضحت ملامح مؤامرة الوقيعة بين الجيش والشعب، أعتقد أن تنسيقا إعلاميا بين القوى الراغبة فى إنجاح الثورة يجب أن تتشكل ملامحه الآن وبسرعة ، قبل أن تحكم الاتجاهات السلفية سيطرتها التامة على العقل المصرى وتفقد الثورة طابعها المدنى الديموقراطى ، وقبل أن تتجمع فلول النظام مع تحفظى على كلمة " فلول" إذ أعتقد أنهم لم يفقدوا بعد قدرتهم على التأثير فى مشاهد عديدة ناهيك عن قوتهم الاقتصادية الجبارة التى تمكنهم من حشد الفقراء حتى ضد أنفسهم( أعنى الفقراء)، هذا التنسيق يهدف إلى دعم التحول الديموقراطى و أقترح أن يقود هذا التنسيق الإعلامى كيان يضم كافة القوى التى تتفق على مدنية الدولة وعلى دعم الوحدة الوطنية وحماية العلاقة بين الجيش والشعب وفى تقديرى أيضا أن يدعم هذا الكيان طموحات الشباب بل يجب أن يضم فى عضويته أكبر عدد منهم وقد استمعت إلى بعض هؤلاء الشباب فاكتشفت أن معرفة بعضهم بأوجاع بلادنا تفوق معرفتنا نحن الذين أفنينا العمر فى نقاشات الغرف المغلقة والمحبطة( بكسر الحاء)، ومن الإنصاف أن نوضح الدور المركزى للمجلس الأعلى للقوات المسلحة كضمانة لتحولنا من نظام العائلة إلى نظام الشعب بعدما تأكدنا بما لايدع مجالا للشك أن هؤلاء القادة هم بالفعل أبناء مخلصين لشعب مصر العظيم.