لفت الأستاذ محمد حسنين هيكل انتباه الرأي العام إلى قضية مهمة عندما أشار إلى التناقض الكبير بين حضور رموز الجيش والشرطة يتقدمهم القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح السيسي الاحتفال بمرور عام من رئاسة الدكتور محمد مرسي وبين الطابع الحزبي الذي فرضه خطاب الرئيس على تلك المناسبة. وما قاله هيكل يكشف أخطاء رئاسة متخبطة ولا يشكك في تعالي الجيش والشرطة على الحزبية والطائفية والفئوية. لكن ملاحظات الكاتب الكبير تعيد إلى الأذهان، في هذه الأيام الحاسمة، التساؤلات التي سبق وأن ثارت حول التوجهات السياسية والدينية للقائد العام للقوات المسلحة، خاصة بعد أن أزيح المشير طنطاوي ليحل محله الفريق السيسي، أيامها قال البعض ما يعني أن إزاحة طنطاوي ومجئ السيسي كانت خطوة حاسمة على طريق تحويل الجيش المصري من جيش مواطنين – وهذا مصطلح مستوحى من كلام هيكل – إلى جيش حزبي على غرار الجيوش الحزبية في بلدان مثل العراق وسوريا البعثيتين. وهذا اتهام خطير لقائد وطني بالمشاركة، ولو على نحو رمزي في أخونة مؤسسة هي العمود الفقري للدولة، فما مدى صحة هذا الاتهام؟ هو قطعاً اتهام غير صحيح، وما قاله روجر أوين في الحياة اللندنية وعبدالله السناوي في الشروق القاهرية وياسر رزق لعمرو أديب في برنامج القاهرة اليوم، بعد عزل المشير حسين طنطاوي والفريق عنان وتعيين السيسي وصبحي مكانهما يمضي بنا في اتجاه يخالفه تماماً، وما اشتركت فيه شهادات الثلاث هو أن خروج طنطاوي وعنان كان خطوة اتخذتها القوات المسلحة المصرية على نحو يساعدها على الأدوار المطلوبة منها بعد أن عادت مصر إلى صورتها في صباح الثالث والعشرين من يوليو، أي عندما كانت «وطن الشباب»، والتعبير مأخوذ من قصيدة لشاعر العامية المصري محمد سيف، فما هو دور الإخوان ودور ممثلهم الدستوري في قصر الاتحادية في عملية تجديد دماء القيادة واختيار رموز المرحلة الجديدة من تاريخ قواتنا المسلحة؟.. ما قاله ياسر رزق صراحة هو أن دوره اقتصر على أن يبصم بالموافقة. وهذا ما نفهمه أيضا من كلام روجر أوين وعبدالله السناوي بل وأيضا مما قاله عن خلفيات إقالة طنطاوي السير سيريل تاونسند الذي يرى الأمور من زاوية خاصة به.. إذن فصعود السيسي هو أمر خاص بالقوات المسلحة ومتسق تماما مع شجرة النسب المهنية والسياسية التي تربط هذا القائد بسلفه المشير طنطاوي وتربط طنطاوي بالفريق محمد فوزي وتربط فوزي بجمال عبدالناصر. ورغم أن جمال عبدالناصر هو الرمز الأعلى للفصل الراهن من التاريخ الألفي للوطنية المصرية، فهذا الفصل لم يبدأ به ولا بحركته المباركة يوم الثالث والعشرين من يوليو 1952، بل بدأ بالحركة الشعبية التي قادها الضباط العرابيون المطالبون بحكم دستوري وبتقليص امتيازات الأجانب، في القرن التاسع عشر، وهي الحركة التي رد عليها الخديو توفيق وأحبطها باستدعاء قوات الاحتلال البريطاني، وبرغم مؤامرات القصر والإنجليز فمنذ تلك اللحظة حولت وطنية الضباط الثائرين الجيش المصري من أداة فعالة بيد الأسرة الخديوية إلى جيش مواطنين. ولابد أن نتذكر أن الصحوة العرابية اتسمت بصفتين لازمتين لفهم ما يجري اليوم في بلادنا: أولا، أن الدستور كان المطلب الأساسي للعرابيين أي أن حركتهم هي حركة ديمقراطية.. وثانياً، أن الضباط كانوا رأس حربة جهاز الدولة المصرية الذي اكتمل بنيانه آنذاك، أي أن الدولة بأجهزتها المدنية والعسكرية كل لا يتجزأ. وقد كانت المطالبة بالدستور وبتمصير جهاز الدولة تهدف، بالأساس، إلى تحقيق الاستقلال والعدالة الاجتماعية.. فالدستور والحقوق السياسية كانت مجرد وسائل لتحقيق هدف أبعد وهو الاستقلال وحق المصري في خيرات بلاده. ولهذا كان من السهل على الحركة الوطنية المصرية في زمن لاحق أن تقدم لاستقلال والعدالة الاجتماعية على كافة الحقوق السياسية، وهو ما جرى في العهد الناصري وساعد عليه حب الناس لعبدالناصر وثقتهم به. لكن ذلك لم يكن تنازلا عن حقوقنا في الديمقراطية السياسية التي بقيت وديعة تأخرت إعادتها لأصحابها بذرائع وحجج سقطت كلها في الخامس والعشرين من يناير 2011.. ولأن جهاز الدولة الوطنية وعموده الفقري الممثل في القوات المسلحة كانا أداة جمهورية يوليو في معارك الاستقلال والتمصير والعدالة الاجتماعية فجهاز الدولة ممثلا بقواته المسلحة مسئول عن هذه الوديعة . ولو أن الأخونة طالت الجيش لكنا فقدنا الأمل في استعادة الوديعة الغالية التي تهرب النظام من إعادتها لزمان طويل. ولا تفسير لمحاولات النظام الإخواني تفكيك جهاز الدولة إلا أنه يريد التخلص من استحقاقات الديمقراطية، سياسية كانت أو اجتماعية، فما هو موقف الجيش من هذه المحاولات؟.. الإجابة يحددها الشارع، هذا ما تقرر في الخامس والعشرين من يناير المجيد، جيشنا ليس جيشا انقلابيا ولن يبادر لفرض إرادته السياسية (الوطنية والمشروعة) على المؤسسات المدنية المنتخبة، لقد بقي المشير طنطاوي رافضا لبيع أصول الدولة ورافضا للتوريث حتى تحرك الشعب ليضع حدا للتوجهين معا فسانده الجيش. ولا تفسير لحركة الشارع اليوم ضد هيمنة المنظمة السرية الإخوانية على مصر شعبا ودولة إلا أن الشارع يريد استعادة وديعته الغالية، لأنه إن لم يستعدها اليوم فقد يبقى محروما منها نصف قرن آخر، وإذا كانت حركة الشارع لاستعادة وديعته سلمية ومثابرة فالجيش - ومعه الشرطة – قادر على حمايتها والوصول بها لغاية طال انتظارها. وفي قلب هذا المشهد يقف الفريق عبدالفتاح السيسي ضابطاً وطنياً ملتزماً بأداء الجيش والشرطة والقضاء والإعلام وبقية مكونات الدولة المصرية لحق الشعب على دولته.