لم أشهد غباء سياسياً، كالذى شاهدته، والملايين مثلى، فى حوار الرئيس و«الحرافيش» حول أزمة سد النهضة الإثيوبى.. كدت أبكى وأتقيأ حسرة على ما وصلت إليه مصر من انهيار وضعف على يد حفنة من رجالها، يتحدثون وكأنهم على «مصطبة شيخ البلد» ويقبلون الأعتاب، قبل الأيادى والخدود والرؤوس، فيلحقون بأم الدنيا فضائح لم تشهدها عبر التاريخ. كان حواراً «مسخرة».. بكل ما تحمله الكلمة من معنى وبكل ما تضمنه من مقترحات هزيلة وسخيفة قدمها «السنيدة»، لرئيس تثبت الأحداث والأيام أن مصر أكبر منه بكثير. فلا توجد دولة محترمة فى العالم، تناقش قضايا أمنها المائى والقومى على الهواء مباشرة، وبهذا التهريج المنظم أو كما قال المصريون يوم الاثنين الماضى «فضحونا الله يفضحهم». كان الحوار صادماً ومفزعاً، ولم يفلح اعتذار الرئاسة عن إذاعته فى إزالة آثاره السلبية على مصر والمصريين، فقد خرجت الرصاصة الفشنك نحو إثيوبيا ولم تأت بأى نتيجة، ولم يتبق سوى صدى صوتها الفاضح، فالعالم كله بات يعرف الآن أن مصر الساعية إلى الديمقراطية والداعية للسلام لديها استعداد كبير لقلب نظام الحكم فى إثيوبيا، وإعلان الحرب عليها وتهديدها بالأساليب الاستخباراتية والصواريخ، «كده وكده» أمريكانى، يعنى غير حقيقية، كما يريد أيمن نور زعيم حزب غد الثورة أو تسليط جماعات إرهابية متطرفة على أمنها الداخلى، كما تخيل يونس مخيون رئيس حزب النور. والغريب هنا أن يخرج علينا رئيس حزب الحرية والعدالة ويبرر ما حدث بأنه شفافية ومصارحة، متجاهلا الفارق الكبير بين الشفافية وبين العبط السياسى والاستهانة بقيمة ومكانة مصر التى قد يعرضها هذا المشهد التليفزيونى الهابط إلى محاكمة دولية إذا ما شكتنا إثيوبيا للأمم المتحدة ومجلس الأمن. أحسنت الأحزاب والقوى السياسية الأخرى صنعاً عندما رفضت دعوة هذا الحوار، الذى كشف على الملأ مدى التسطح الفكرى والسذاجة السياسية لمن يعتمد عليهم الرئيس مرسى فى حواراته «الديكورية» أو التجميلية، ولا يؤخرون له موعداً، أو يرفضون له أداء أى مشهد مسرحى على حساب أمن مصر القومى وعلى حساب أمنها المائى، الذى أصبح مهدداً من كل جانب، بعد أن تجرأت دول أخرى مثل أوغندا وتنزانيا والكونغو على بناء سدود جديدة تضاف الى السدود السبعة التى قررت إثيوبيا إنشاءها، مستثمرين ضعف مصر وهوانها فى عهد الإخوان وحلفائهم. لقد انقلب الحال وتبدلت موازين القوى، وبلغ الأمر الدرجة التى تدعو فيها الجماعات الإسلامية الى تشكيل وفد للسفر الى أديس أبابا لاسترحام واستعطاف حكامها.. إنها والله لكبيرة فى حق مصر وشعبها، فإثيوبيا هى التى كانت تسترحم وتستجدى مصر منذ عهد الخديو توفيق، وتخشى كلمة أو تهديداً يخرج من فم حاكمها، وعندما فكرت مجرد التفكير فى بناء هذا السد أيام عبدالناصر، قامت الدنيا ولم تعقد، وعندما حاولت مجدداً فى عهد السادات هدد نظام منجستو هيلا مريم بالضرب والحرب، أما فى عهد مرسى فحدّث ولا حرج، هكذا يكون المشهد دائماً لنظام دخلت كل مؤسساته فى غيبوبة ويبدو أنها لن تفيق منها إلا بمعجزة تنقذها من الموت الإكلينيكى. والسؤال المهم الآن.. أين كانت أجهزة الأمن والاستخبارات المصرية ووزارة الخارجية ووزارة الرى؟... فحكاية السد معروفة من سنين.. وأين كان هشام قنديل عندما كان وزيراً للرى ثم رئيساً للوزراء. إننى أطالب بمحاكمة هذا الرجل ووزراء الرى السابقين فوراً، لما اقترفوه فى حق مصر، واتخاذ كافة السبل لوقف بناء السد بتصميماته الحالية، والتلويح بالخيار العسكرى وليعلم الجميع أن حماية أمن مصر المائى ترفض هذا التهريج، وواجب وطنى وليس واجب الإنقاذ والإخوان وحلفائهم من السلفيين والجهاديين و«المشتاقين» الذين أضاعوا هيبة مصر.