عادت لمبة الجاز العتيقة إلى الحياة. عادت إلى النور لتنير للناس حياتهم التي تحولت إلى ظلام، وقد عاشت مصر على ضوء لمبات الجاز ورفقائها من الكلوبات وغيرها قروناً قبل أن تختفي تماماً مع الانتشار المذهل للكهرباء في شتى ربوع البلاد.. عادت مرة أخرى لمبة «نمرة عشرة» للحياة. فهل كانت عودتها حميدة؟.. هل فرح المصريون بعودة هذه الوسيلة البدائية لإنارة بيوتهم؟.. أم أن الأمر في العصر الحاضر تعدى الإضاءة على شريط قطني يستمد طاقته من قارورة جاز؟.. بالطبع لا.. وألف لا.. فقد قفز الناس مع الكهرباء فقزة هائلة ليس في الإنارة وحسب، ولكن في شتى الاستخدامات الحياتية المعاصرة.. بل إن الحسرة والكآبة عمت ربوع مصر في كل المناطق التي تنقطع فيها الكهرباء، ووصل الأمر للإضرابات ومهاجمة المسئولين وغير ذلك. وهنا يأتي السؤال المهم: هل يعود التاريخ؟.. هل تعود وسائله؟!.. بالطبع أبداً لا يعود، فلماذا إذن تظهر جماعة من الناس يرتدون ملابس مميزة ويطلق أغلبهم لحاهم الكثة لينادوا بعودة التاريخ إلى الوراء وإيقاف عجلة الحياة عكس ناموس الوجود وعكس طبيعة الأشياء. إن الذين يفكرون اليوم في عودة عصر الخلافة الإسلامية من جديد مثلهم مثل من آنس إضاءة بيته وحياته بلمبات الكهرباء ثم فجأة أراد أن يبدلها بلمبات الجاز، ثم لعله يترك سيارته ويقتني ناقة أو بغلاً أو حماراً ليستخدمها في مواصلاته في شوارع هذا الزمن التي لا يمكن أن تصلح لهذه الوسائل العتيقة. إنه بهذا يمشي ضد طبيعة الأشياء ويفكر بمنطق اللامعقول.. لقد ذهبت الأيام التي كانت تكتنف الخلافة الإسلامية بثوابتها وبظروفها التي تناسبت مع العصر الذي كانت فيه، كما ذهبت لمبات الجاز التي كانت الوسيلة الشائعة للإضاءة في زمنها العتيق.. وكما أن الزمن أبداً لا يعود إلى الوراء، فالناس أيضاً ألا يمكن أن يعودوا ليعيشوا عصراً مضى عليه مئات السنين لأن حياتهم اليوم ليست هي الحياة التي كانت سائدة في عصر الخلافة، فليست العقول هي العقول ولا الظروف هي الظروف ولا الزمن هو الزمن فكيف إذن يعود عصر الخلافة وبأي منطق يكون، وإلا فإن على الإمبراطوريات التي محاها الزمن مثل الإمبراطورية البريطانية العظمى التي لم تكن تغيب عنها الشمس وغيرها من الإمبراطوريات التاريخية المعروفة أن تنادي أو تحلم بالعودة هي الأخرى من جديد.. وهذا ما لا يمكن أن يكون. إن حلم أو فكرة عودة الخلافة الإسلامية للحياة.. حلم ساذج يقوده من لا دراية لهم بالحلم الحقيقي للتقدم والمستقبل والتطوير، سواء كان ذلك في الحياة الاجتماعية أو العقائدية الدينية، ولعل توقف الشعوب والدول الإسلامية في مكانها من التاريخ مع انطلاق الدول والشعوب الأخرى لتصنع المستقبل وتساير ركب الحضارة وترتقي وتزدهر هو الحاصل نتيجة جمود الفكر وشيوع الجهل والجهالة في عقول المسلمين – بعضهم - الذين يقفون مكانهم والدنيا كلها تتحرك إلى الأمام ومن حولهم، ولو أنهم أعملوا عقولهم واستجابوا لطبيعة العصر الذي يعيشون فيه ونظروا باهتمام إلى عجلة الدنيا التي لا تتوقف لأحد لغيروا فكرهم وأفاقوا من أحلامهم المريضة، عليهم أن يقفوا وقفة صادقة مع أنفسهم ويسألوها بكل صراحة. لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟.. لماذا تخاذلنا والآخرون اندفعوا للأمام؟.. لماذا نتمسك بالقشور والتوافه في ديننا ونترك اللب عصب الأشياء؟.. لماذا وصل بنا الأمر إلى الإساءة لديننا الحنيف لدرجة أن يصمه الآخرون وإيانا بالإرهاب والتخلف؟ أليس الأفضل لنا ولديننا الحنيف أن نحسِّن صورته وصورتنا بين العالمين، وأن ننشر فضائله وجميل خصاله على البشر.. الأولى من فكرة إحياء الخلافة الإسلامية للناس الذين يعيشون في هذا العصر الحالي ويتمتعون بكل وسائله الحضارية من إنارة ومواصلات واتصالات وغيرها كثير أن يفكروا في النافع والمؤثر، وبدلاً من أن ينادوا بالعودة للوراء، وهو أمر ضد طبيعة الأشياء ونواميس الوجود والحياة، أن يجملوا أنفسهم وأن يتدثروا بثياب جديدة مليئة بالحب لكل البشر، وأن يتعلموا كيف يخاطبون الآخر من بني الإنسان، فليسوا وحدهم يعيشون في أرض الله التي تتسع لأولاد آدم جميعاً على اختلاف ألوانهم ومعتقداتهم. علينا أن نفتح قلوبنا وعقولنا للآخر، أن نطرح رؤيانا ووجهة نظرنا في الدين والدنيا بمفهوم واقعي جديد يلائم العصر والتقدم المذهل الذي نعيش فيه في شتى فروع الحياة، وأن تكون رؤيانا نابعة من ثوابت ديننا الحنيف الداعي للمودة والإخاء والمحبة بين الناس بعضهم البعض.. زماننا جنحت في الماديات جنوحاً كبيراً، وهذه فرصتنا لأن نحيي في الناس الروحانيات التي افتقدوها، ولن يكون ذلك بعودة الخلافة الإسلامية، لا وإنما يكون بعودة الدين الإسلامي الحقيقي الصحيح بعيداً عن الغلو والمغالاة، هنا فقط نكون قد خدمنا ديننا ودنيانا واستعدنا للإسلام اسمه ورونقه بين العالمين.