لو لم يكن هذا الخبر المذهل مصدره صحيفة لوفيجارو الفرنسية العريقة عالية المصداقية لما أمكن تصديقه ولاعتبره القارئ تشهيرا بالرئيس الفرنسي من بعض أعدائه السياسيين. ولنبدأ القصة المذهلة من البداية. كما رصدها الخبير أحمد عز العرب، عضو الهيئة العليا بالوفد، تحت عنوان: »نيكولا ساركوزي يعترف بأصوله اليهودية. والصحافة الفرنسية تكشف علاقته بالمخابرات الإسرائيلية« نشرت صحيفة لوفيجارو في الأسبوع الأخير من أكتوبر أن الرئيس الفرنسي عميل في المخابرات الإسرائيلية.. وربما مازال يعمل بها كمساعد لها. وأنه واحد من آلاف اليهود غير الإسرائيليين الذين يتعاونون مع ضباط جهاز الموساد الإسرائيلي. تلقي مسئولو البوليس الفرنسي خطابا خلال الشتاء الماضي قبل الانتخابات الرئاسية يقول إن ساركوزي كان مجندا كجاسوس إسرائيلي. ويحقق البوليس الفرنسي حاليا في المستندات التي تتهم ساركوزي بالتجسس لحساب الموساد. وتقول جريدة لوفيجارو إن هذه المستندات تعود لسنة 1983. وطبقا لما ذكره مرسل الخطاب للبوليس الفرنسي فإن رئيس وزراء إسرائيل سنة 1978 مناحم بيجن أمر الموساد باختراق حزب ديجول الحاكم. وركز الموساد أولا علي تجنيد باتريك بلكاني وباتريك ديفيديان وبييرليلوش . وفي سنة 1983 جند الموساد »الشاب الواعد« ساركوزي رجله الرابع. ويصف عميل الموساد السابق فكتور أوستروفسكي كيف يتحرك العملاء. يتم الاتصال بهم أولا عن طريق أقارب لهم في إسرائيل. فالإسرائيلي الذي له قريب في فرنسا مثلا تطلب منه الموساد أن يكتب خطابا لقريبه الفرنسي يقول له إن حامل هذا الخطاب يمثل تنظيما هدفه الأساسي المساعدة في إنقاذ يهود الشتات ويرجوه المساعدة بأي وسيلة يستطيعها. ويقوم المجندون بعد ذلك بأداء أعمال عديدة. فإذا كان أحدهم صاحب مكتب تأجير سيارات مثلا فإنه يساعد الموساد بتأجير سيارة له دون الحاجة لإكمال بيانات المستأجر العادية. وإذا كان المجند يعمل في مجال العقارات فإنه يهيء للموساد الشقة المطلوبة دون إثارة الشكوك. وإذا كان طبيبا فإنه يعالج مصابا برصاصة عندما يطلب منه الموساد ذلك دون إبلاغ البوليس بالحادث. وماذا عن المجند السياسي؟ من الواضح ما يعنيه ذلك. فالمجندون مجموعة من الناس مستعدة للحركة ومحتفظة بسرية أعمالها نتيجة ولائها »للهدف«. وهي وسيلة تجنيد لا تعرض العميل للخطر. فالتجنيد يتم من بين ملايين اليهود من خارج إسرائيل. يثير هذا الحديث الفرغ خصوصا بين العرب والمسلمين. والواقع ان كشف هذا الموضوع لم يمر بسهولة في العواصم العربية ولم يكن مفاجأة. فباريس يمكن أن تكون مكانا تغمره الشمس ويعشش فيه خفافيش الظلام. فعندما يتعلق الأمر بجمع معلومات استخباراتية لحساب إسرائيل يثور تساؤل فورا بشأن أخلاقيات الشخصية المعنية. ولكن كيف تؤثر هذه الفضيحة علي سياسة فرنسا الخارجية والداخلية؟ من الأمور ذات المعني أن رئيس وزراء إسرائيل السابق إيهود أولمرت كان في زيارة رسمية لفرنسا في أعقاب ما نشرته لوفيجارو. وكان سبب زيارته المعلن هو التباحث بشأن أجندة إيران النوية والمسألة الفلسطينية. ففرنسا المعتدة بنفسها تحت قيادة الرئيس الجديد تأمل في لعب دور أكثر فعالية في عالم الشرق الأوسط المرتبك. وسافر ساركوزي يوم الاثنين إلي مراكش - مسقط رأس الكثيرين من يهود فرنسا - في أعقاب إعلان علاقته بالموساد. وليس هناك دليل واضح ان كشف فضيحة ساركوزي زاد من الكراهية ضد فرنسا في العالم العربي وخاصة في دوائره الرسمية. وفي المجال الداخلي هناك اعتبارات متعارضة.. فيهود فرنسا الآن يبدون نوعا من اهتزاز الثقة بالنفس مقارنة بالغرور والسعادة التي قابلوا بها انتخاب ساركوزي رئيسا. فقد صرحوا وقتها علي لسان سامي غزلان رئيس الجالية اليهودية في باريس قائلين: »نحن واثقون ان الرئيس الجديد سيستمر في محو المقاومة ضد إسرائيل«. ويعيش في فرنسا نصف مليون يهودي معظمهم من اليهود السفاردين القادمين من شمال أفريقيا ودول البحر المتوسط. وينحدر آرون ملاح - جد ساركوزي من ناحية أمه - من مدينة سالونيك اليونانية. ويقال إنه كان ذا تأثير قوي علي حفيده. ورغم ان ساركوزي تربي علي أنه كاثوليكي فقد لعب دورا حاسما في دفع الحكومة الفرنسية لعمل ما هو ضروري لإيقاف موجة الكراهية التي تهدد أكبر جالية يهودية في غرب أوروبا. وقد أكد ذلك دافيد هاريس المدير التنفيذي للجنة الأمريكية اليهودية. فساركوزي قبل كل شيء هو نتاج سياسي للنخبة المنتشرة في منطقة نويللي علي نهر السين والتي تضم أغلبية يهودية. وكان ساركوزي عمدة لهذه المنطقة لمدة طويلة. ولم تندهش الأقلية المسلمة في فرنسا مما نشرته لوفيجارو. وإن كان بعضهم قد عبر عن خيبة أمله. أما الآخرون فقد أعلنوا صراحة: »أن فرنسا لا تدار بواسطة الفرنسيين بل بواسطة عملاء الصهيونية العالمية الذين يسيطرون علي الاقتصاد«. وجاء هذا الإعلان في »راديو الإسلام« الذي تسيطر عليه الاتجاهات الإسلامية المتطرفة. وعندما كان ساركوزي وزيرا لداخلية فرنسا وعامل المهاجرين الإسلاميين بقسوة شديدة واصفا متظاهريهم »بالحثالة« في تصريح صحفي شهير له، رد عليه المسلمون قائلين: »ساركوزي اليهودي القذر«. وواضح تماما انه ليس هناك حب مفقود بين الجالية الإسلامية في فرنسا البالغ عددها خمسة ملايين - وهي أكبر جالية إسلامية في أوروبا - وبين الرئيس الفرنسي.. ويسبب ذلك قلقا للرئيس الفرنسي يدفعه للاعتماد علي الإسرائيليين كما هو معروف. وفي التحليل العلمي للسياسة الفرنسية هناك قصة تحذيرية. فالرؤساء الفرنسيون ليسوا دائما كما يبدو عليهم. وهناك علي أي حال ملاحظتان رئيسيتان عن ساركوزي. الأولي أن رغبة ساركوزي في تطبيق »عقد اجتماعي جديد« بين أصحاب الأعمال والعمال وبين رأس المال والعمل. ويبدو ذلك مثل سياسة مارجريت تاتشر في بريطانيا. فتصميمه علي تفجير »ثورة ثقافية« في الضمير الجماعي القومي هو تهريج سياسي وليس عقائديا بأي حال. وقد قدم مؤخرا تشريعات ضمن برنامجه لتخفيض المعاشات تتضمن ألا يسمح للمهاجرين الأجانب بدخول فرنسا إلا لو كان لهم أقارب بفرنسا. وتبدو هذه السياسة كما لو كانت بهدف تسهيل صدمة تخفيض المعاشات عن طريق النفاق للعنصرية الفرنسية. فحالة علاقات الأجناس في فرنسا أكثر ارتباكا من الصورة المدمرة التي قدمها الكوميدي الفرنسي الإفريقي ديودون، فهو شهير يلعب دور اليهودي الشرقي الذي يسخر من التحية النازية. والعديد من السياسيين ينسبون متاعبهم إلي الكوميديين الساخرين. وساركوزي ليس استثناء من هذا النوع من السياسيين. ويشير أعوانه دائما بأصابع الاتهام »للصحافة غير المسئولة«. ونقف عند هذه الفقرة لنقدم في الحلقة الثانية والأخيرة باقي هذا التقرير المذهل عن ساركوزي الحقيقي الذي يلعب علي حبال الخداع مع قادة الأنظمة العربية المستسلمة للغرب، والذين يسمون »المعتدلون« من باب التدليل. وبعد ان كشفت صحيفة رئيسية فرنسية ذات مصداقية عالية حقيقية هذا الساركوزي. ألم يحن وقت مراجعة موقفنا منه وما تورطنا معه فيه من رئاسة مشتركة لما يسمي اتحاد البحر المتوسط الذي هو في حقيقته عملية إحياء لاتفاق سايكس/ بيكو القديم سنة 1951 لتقسيم مناطق النفوذ في عالمنا السعيد بين فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا أكبر قوتين استعماريتين في العالم خلال وبعد الحرب العالمية الأولي؟