تشهد مصر درجة مرتفعة من الاستقطاب الحاد الذي ينطوي على تصلب وشدة في المواقف تصل في حالات متكررة إلى حد المجابهة العنيفة في الشارع بما يمثله ذلك من تهديد للاستقرار السياسي وهي ظواهر غير مألوفة في مصر عبر مراحل تاريخية وعهود سياسية مختلفة ، فالمجتمع المصري معروف عنه الاعتدال والوسطية وقيمة التسامح وقبول الآخر والبعد عن التعصب، ولعل هذا ما جعل مصر رغم ما تعرضت له من غزو وغزاة عبر التاريخ تظل محافظة على سماتها وخصائصها المميزة وتنجو من الذوبان في الآخرين وتحافظ على نسيجها الوطني المتجانس أو ما يطلق عليه التكامل القومي. وارتبط بهذا الاستقطاب الحاد تراجع ملحوظ في القدرات الأمنية في وقت يحتاج فيه المجتمع أكثر من أي وقت آخر إلى تحقيق الأمن والحفاظ عليه خلال الفترة الانتقالية التي تتسم بعدم التيقن وبحدوث عديد من التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية. وقد شهدت الفترة التي أعقبت الثورة وخلال العامين الماضيين حدوث العديد من أحداث العنف سواء في خلال الثورة أو في أعقابها وسقوط العديد من القتلى والجرحى دون أن يتم التوصل إلى الفاعل الأصلي أو تحديد المسئولين عن هذه الأعمال التي تم تحميلها في حالات متكررة إلى جهة مجهولة أو ما أصبح يصطلح على تسميته بالطرف الثالث. وقد تعددت هذه الأحداث التي لم يتم التوصل فيها إلى الجناة وربما كانت البداية الحقيقية لهذه الأحداث خلال الثورة فيما اصطلح على تسميته إعلاميا ب «موقعة الجمل»، ثم توالت وتكررت الأحداث مثل أحداث مسرح البالون ومحمد محمود وأحداث ماسبيرو ومأساة بورسعيد، وأحداث بور سعيد عقب صدور الأحكام القضائية وغيرها من الأحداث مثل الاعتداء على الجنود المصريين في شهر رمضان الماضي ولم يتم حتى الآن تحديد الجناة ومحاسبتهم. وتتمثل الخطورة في هذا الوضع إنه يزيد من درجة الاضطرابات وعدم التيقن التي تشهدها البلاد ويجعل الجو مهيئا لانتشار الشائعات وما يرتبط بها من أزمة ثقة وعدم تيقن بين الأطراف والقوى السياسية المختلفة، وكذلك بين فئات وطوائف الشعب حيث تتزايد الاتهامات المتبادلة بين الجميع، ولذلك ليس المطلوب أن يكون هناك طرف ثالث مجهول بل المطلوب أن تكون هناك أطراف متعددة معلومة، وهذا هو جوهر الديمقراطية، كذلك من المرغوب فيه في جميع الأحيان تحديد ومحاسبة المسئول عن أعمال عنف وأحداث دامية تشهدها البلاد وأن يتلقى الجزاء العادل الذي ينظمه ويحدده القانون، لأن الإخفاق في تحديد الطرف الثالث وفي حالات متكررة يترتب عليه تراجع في هيبة الدولة ومبدأ سيادة القانون، وكذلك التشكك في قدرة القانون على القصاص، ولعل هذا التشكك هو ما دفع بعض المواطنين وفي مناطق مختلفة من البلاد إلى القصاص بأنفسهم ممن أطلق عليهم «البلطجية» في جرائم سرقة وترويع أو تحرش وغيرها، وذلك اعتقاداً منهم أن القانون لن يقتص لهم وأن المجرم ربما لن يحصل على ما يستحقه من جزاء بالطرق القانونية العادية وربما ساعد على تكريس هذه الفكرة لدى بعض المواطنين توالي إصدار أحكام البراءة في عديد من القضايا سواء ما يتعلق بالنواحي الجنائية (موقعة الجمل) أو ما يتعلق منها بتضخم الثروة. ويثير ذلك موضوع آخر على جانب كبير من الأهمية وربما يسهم في تحديد الطرف الثالث وهو تحديد المسئول عن إخفاء الأدلة والمستندات والتسجيلات المتعلقة بموقعة الجمل، وكذلك تحديد الأطراف المسئولة عن قتل وإصابة الثوار في حالات متكررة أعقبت الثورة لأن القصاص العادل للشهداء والمصابين هو بداية تحقيق الاستقرار السياسي، ويصعب من وجهة نظري أن يتحقق الهدوء دون تحقيق القصاص من جانب، ودون التخلص من حالة الاستقطاب السياسي الحاد الذي تعاني منه البلاد من جانب آخر، ويتطلب الأمر للتخلص من حالة الاستقطاب وتجاوزها التركيز على القواسم المشتركة بين الأطراف والقوى السياسية المختلفة والبعد عن لهجة الاتهامات المتبادلة والتخوين وتحقيق الحد الأدنى المرغوب فيه من التوافق على القضايا الخلافية سواء ما يتعلق منها بموضوع الحكومة أو النائب العام أو المواد الدستورية وموعد الانتخابات والأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحققة لمصلحة الوطن والمواطن والعمل على دفع عملية التنمية وفتح قنوات الاتصال المزدوجة بين النخبة والعامة، وإيجاد آلية تسمح بالاستجابة للمطالب المشروعة والعادلة للمواطنين من خلال الحوار والمناقشة بحيث لا يصبح النزول إلى الشارع هو البديل الوحيد المطروح. وكذلك من المرغوب فيه في جميع الأحيان أن تستعيد الدولة هيبتها وكذلك مؤسساتها وأن يستعيد القانون هيبته واحترامه، والابتعاد عن الاحتكام للقوة لحل الاختلافات السياسية، ويرتبط بذلك كله ضرورة تحديد الطرف الثالث الذي تكررت جرائمه واعتداءاته وخرقه للقانون دون أن يتم تحديده ودون أن يطبق عليه الجزاء المناسب لما اقترفه من جرائم في حق الوطن، ولعل تحديد هذا الطرف الثالث تكون بداية الوصول إلى الاستقرار السياسي المنشود للوطن. العلوم السياسية بجامعة القاهرة