عرضنا في الحلقة السابقة الجزء الأول من التقرير الخطير الذي نشرته صحيفة الجارديان البريطانية في 10 فبراير لكاتبها بيتر مومونت وباتريك كينجزلي الذي يعرضان فيه الانفجار المفاجئ للتيار السلفي المتشدد وأسبابه ومخاطره علي ثورات الربيع العربي.. ويشرح الكاتبان أن إسقاط الديكتاتوريات القمعية في شمال أفريقيا لم يعقبه قيام ديمقراطيات عربية، بل ترك فراغاً مكن من صعود حركة متطرفة تحشد الأتباع في سرعة وقوة، وغطي الجزء الأول كيفية ظهور الحركة السلفية والعنف الذي صاحبه في كل من تونس وليبيا ومصر، موضحاً تفاصيل تكوين هذه المجموعات في البلاد الثلاث وما فعلته الحركة السلفية المتطرفة في ليبيا. وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة يغطي التقرير أوجه الشبه بين النشاط السلفي في الدول الثلاث وأوجه الخلاف بينها. يقول التقرير: إنه رغم الخلاف بين هذه الحركات فإن هناك تشابهاً مذهلاً بينها، ففي تونس كما في مصر هناك مناطق أكثر ثورية وأكثر رجعية دينياً من غيرها، ففي جنوبتونس والمناطق الداخلية منها وجدت الحداثة صعوبة شديدة في التغلغل فيها، سواء في الفترة الاستعمارية أو في ظل حكومات ما بعد الاستقلال، وبينما يستطيع العنف والتهديد به من هذه الأقلية المتطرفة داخل الأقلية السلفية زعزعة استقرار حكومات الربيع العربي، فإنها تسبب كذلك مشاكل سياسية ضخمة للحكومات الإسلامية التي قامت في بعض هذه البلاد. في تونس مثلاً تقدر الحكومة أن بين مائة وخمسمائة مسجد من الخمسة آلاف مسجد الموجودة في تونس يسيطر عليها أئمة متطرفون، ورغم أن أغلبية السلفيين ملتزمون بعدم العنف، فإن الحركة ككل تدفعها هذه الأقلية الجهادية العنيفة، وقد سبب ذلك مشاكل كبيرة لحزب النهضة الإسلامي الذي تتهمه القوي غير المتأسلمة بأنه يتآمر سراً مع السلفيين لأسلمة تونس، وأكبر دليل تسوقه هذه القوي علي ذلك هو عدم رغبة الحكومة أو عدم قدرتها علي مواجهة أشد المجموعات السلفية تطرفاً. والواقع أنه عندما تم القبض علي خلية للقاعدة في تونس العام الماضي وجد أن كل أعضائها نشطاء في مجموعات سلفية أخري هي «أنصار الشريعة» التي كونها المدعو «أبوإياد» الذي حكم عليه بالسجن 43 عاماً في عهد الديكتاتور الساقط «بن علي» بعد أن سلمته تركيا لتونس، ثم صدر عفو عنه بعد الثورة عام 2011 ضمن العفو عن السجناء السياسيين. أما المعروفون بالجهاديين فقد علا صوتهم مؤخراً ضد فرنسا لتدخلها في مالي مما رفع من العداء لفرنسا في تونس، وتقول السلطات الجزائرية إنه ضمن ال 32 مسلحين إسلاميين الذين هجموا علي حقل «أميناس» للغاز الشهر الماضي كان بينهم 12 تونسياً، ويقال إن الجهاديين التونسيين قد سافروا إلي سوريا للاشتراك في ثورتها. وكما أشار العديد من المحللين العام الماضي فإن حزب النهضة التونسي أصبحت مواجهة العنف السلفي أمامه هي التحدي الأكبر، فحكومة حزب النهضة تخشي انتشار التطرف بين السلفيين لو هاجمت السلفيين بعنف كما فعل نظام «بن علي» لذلك حاولت الحوار مع من يعلن نبذ العنف من السلفيين، وقد أدت هذه السياسة إلي اتهام الحكومة بالضعف الشديد أمام المتطرفين أو بأنها سمحت سراً للمتطرفين بمهاجمة خصومها من العلمانيين مثلما حدث في اغتيال الزعيم المعارض بلعيد. وكما يقول إيرك تشرشل وأزون زلين في مقال لهما نشرته مؤسسة كارنيجي العام الماضي: «إن هذا الوضع يفتح الباب أمام العلمانيين لانتقاد تصرفات الحزب الحاكم واتهامه بالازدواجية، أي أنه حزب محافظ سراً معتدل علناً». وكانت الأحزاب العلمانية اليسارية التونسية بصفة خاصة أشد المنتقدين للحكومة لتعيينها نور الدين الخادمي وزيراً للشئون الدينية، مع أنه إمام مسجد الفاتح التونسي الذي يعتبر مركزاً للسلفية، وقد وعد الخادمي بإعادة فرض السيطرة الحكومية والاعتدال علي المساجد التي استولي عليها التيار السلفي بعد الثورة، ومع ذلك اعترف مكتبه أن مائة وعشرين مسجداً مازالت تحت سيطرة الدعاة المتطرفين، ضمنها خمسين مسجداً تشكل مشكلة خطيرة للحكومة، وحتي بعض أعضاء البرلمان التابعين لحزب النهضة تنبهوا مؤخراً للمشكلة، فقد صرح النائب زيد لنهاري أن موضوع السلفيين هو جزء لا يتجزأ من الميراث الذي تركته ديكتاتورية «بن علي» في تونس، ولابد من معالجة هذه المشكلة بحسم شديد، لأن العنف السلفي والجهادي أصبح طريقة حياة، وقراءة حرفية للإسلام، مستوردة من الخارج ودخيلة علي المجتمع التونسي، ولذلك يتباعد حزب النهضة عنها، لأنها تمثل خطراً شديداً علي استقرار تونس. ويضيف النائب أنه يتعين التصدي للعناصر المتطرفة بحسم بوليسي وقانوني شديد، وبعد ذلك يمكن الدخول في حوار مع العناصر السلمية من السلفيين، علي أمل تطوير أفكارهم من خلال الحوار، فهو موضوع اجتماعي أكثر منه سياسي. وأضاف أن الموضوعات الاجتماعية ومحاربة الفقر والتهميش موضوعات حيوية، وعلينا أن نعالجها بجدية وشجاعة. وقالت الدكتورة سلمي مبروك، عضو البرلمان التي تركت مؤخراً حزب التكتل اليساري احتجاجاً علي موقف الحزب من الدستور والائتلاف الحاكم أن المشكلة هي النزعة العنيفة للسلفيين، وليس مجرد أفكارهم العنيفة، فلدينا حرية التعبير ولكل شخص أن يعبر عن رأيه، وحذرت من الموقف المانع لحزب النهضة وحزب التكتل حيال العنف في الشارع والتحريض علي الكراهية ومهاجمة المواطنين التي لا تجد من يردعها، وانتقدت بشدة واقعة أن اثنين من السلفيين الذين اعتقلوا في عملية الهجوم علي السفارة الأمريكية قد ماتا في السجن نتيجة إضراب طويل عن الطعام دون أن يقدما للمحاكمة، وأضافت أن هناك تناقصاً شديداً في مواقف الحكومة، فمن ناحية هناك تساهل شديد حيال العنف في الشارع، ومن ناحية أخري هناك عدم اكتراث بمصير المسجونين والمضربين عن الطعام. ويختتم البحث بتعريف للسلفيين بأنها حركة إصلاح شديدة المحافظة داخل المذهب السني تدعمها السعودية، تطالب بالعودة إلي أخلاق السلف الصالح، وليست جهادية بل تنبذ العنف مبدئياً رغم شدة رجعيتها. وإلي هنا ينتهي تقرير صحيفة الجارديان عن المد السلفي سريع الانتشار وسريع التحول نحو العمل بالسياسة. ولا يسعنا إلا أن نلفت نظر السذج والرافضين لكل أنواع نظرية المؤامرة عن كيف دخل السلفيين حقل السياسة، فهناك طائفتان إسلاميتان تحظران علي معتنقيهما معارضة الحاكم ولو ظلم وهما السلفيون والصوفيون، إذ يعتبرون معارضة الحاكم خطيئة تكاد تصل إلي الخروج علي الدين، وأن واجب المؤمن هو نصح الحاكم، فإن لم يعدل يكتفي بالدعاء عليه ويترك الانتقام منه لله سبحانه وتعالي. ولكن عندما فاز الإخوان المسلمون بعشرين في المائة من مقاعد برلمان مبارك عام 2005 رغم التزوير الفاضح، أصيب مبارك بالهلع ولجأ إلي أصدقائه الوهابيين في السعودية للمساعدة باعتبار الوهابية عدواً لدوداً لفكر الإخوان الديني، وتؤكد كل المعلومات المتاحة والشواهد أن الوهابيين مولوا سلفيي مصر بسبعة عشر مليارات ريال سعودي عامي 2009 و2010 ودفعوهم للعمل السياسي في مصر، ولعل في ذلك تفسيراً معقولاً للانفجار الفجائي للحركة السلفية والإنفاق الهائل الذي تغدق علي أتباعها، والنمو السريع لحركة سياسية الآن تسير عكس التاريخ تماماً. -- نائب رئيس حزب الوفد