شريف عبدالرحمن سيف النصر أيا ما كان حجم الاختلاف مع سياسات جماعة الإخوان المسلمين، وأيا ما كان حجم الرفض لتدخلهم في الحكم، وأيا ما كان قدر الغضب من تراجعاتهم المستمرة عن مواقفهم، لم يكن أحد يتصور أن تتم استباحتهم على النحو الدموي الذي جرى عند جبل المقطم خلال الأسبوع الفائت. في نموذج مصغر وتجربة حية للكيفية التي يمكن أن تنشب بها حرب أهلية همجية في أعقاب ثورة كانت مثالاً في السلمية والتحضر. ولكن الأخطر من العنف الذي مورس بحق الجماعة هو ما صاحبه من تدليس فج، تحول بموجبه الجلاد إلى ضحية والمعتدي إلى معتدى عليه، وذلك بمساعدة الإعلام الذي لم يتورع كعادته عن الفجر في الخصومة، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلاميين بشكل عام وبالإخوان على نحو خاص. في هذا المقال نتوقف عند عدد من أساليب التدليس التي مارسها الإعلام وعدد من فصائل من المعارضة إزاء الجماعة، والتي يمكن أن يستخدموها مستقبلاً لتبرير العنف الأهوج وإضفاء الشرعية عليه. الأسلوب الأول من أساليب التدليس التي مورست أثناء وفي أعقاب الأزمة الأخيرة، تمثلت في استخدام مقولة "الدفاع عن النفس" في غير موضعها، وذلك بالزعم أن ما قام به المهاجمون كان رد فعل لما تعرضوا له من أذى نفسي مرده سياسات الجماعة القائمة على أخونة الدولة والاستحواذ على كافة مفاصل الحكم في البلاد. ولكن لم يوضح هؤلاء لماذا قرر "الثوار السلميون" عند هذه المرحلة التخلي عن سلميتهم واللجوء للحل القائم على الانسياق وراء مشاعر الغضب الأهوج، الذي يغذيه الجهل والمال السياسي، والانقلاب على شركائهم في الثورة، والذين كان لهم الفضل في حماية الميدان في لحظات بدت فيها كفة الأمور تختل لصالح النظام القديم؟ الأسلوب الثاني من أساليب التدليس هو إدانة الإخوان، لأنهم هم الذين استفزوا المهاجمين بتواجدهم المكثف عند مقر جماعتهم، وقد علق أحد المهيجين الإعلاميين على جريمة المقطم بالتساؤل: "ما الذي جعل الإخوان يذهبون إلى مقر حزبهم وهم يعلمون أن المعارضة سوف تتوجه إليه في هذا اليوم؟" فالمفترض وفق هذا المنطق المعوج، أنه بمجرد أن علم الإخوان بتوجه المتظاهرين إلى مقر جماعتهم كان عليهم أن يرتحلوا عنه، تاركين المهاجمين وشأنهم من حرق المقر أو اجتياحه أو تدمير محتوياته. فأصبحت المشكلة أن الإخوان ذهبوا إلى هناك واعترضوا مخطط التخريب "السلمي" الذي كان المحتجون ينوون القيام به. ومن أساليب التدليس أيضا الزعم بأن المهاجمين قد وقعوا في مصيدة الإخوان، وكأن الأمر كان محض استدراج من جانب الإخوان لمعارضيهم من أجل الإيقاع بهم في مصيدة الكاميرا، ووفقا لهذه الخدعة يقوم الإخوان بمهاجمة خصومهم، فإذا ما قام هؤلاء الخصوم بالدفاع عن أنفسهم تم تصويرهم وهم يمارسون هذا "العنف الدفاعي"، لكي يستخدموا هذه الصور بعد ذلك لإدانة المعارضة وتجريسها في أعين الرأي العام توطئة لتصفية المعارضة والتنكيل بها. ولا يخفى ما في هذا المنطق من سذاجة لا تصلح حتى كأسلوب للكذب. الأسلوب التالي من أساليب التدليس يقوم على الخلط بين انتهاكات وقع فيها الإخوان في الماضي القريب وبين الانتهاكات التي تورط فيها المهاجمون في الأزمة الأخيرة. ومنطق هذا الأسلوب أنه كما أن الإخوان قد تلبسوا بممارسات عنيفة ضد عدد من المتظاهرين عند قصر الاتحادية، وعند المحكمة الدستورية، بل وعند مقر المقطم نفسه قبل أيام من وقوع هذه المصادمات يصبح من حق المهاجمين استباحة أعضاء الجماعة كما حدث خلال الأزمة الأخيرة. ولكن حتى لو سلمنا بتعادل مستوى العنف في كلتا الحالتين، فإن الآفة في هذا المنطق أنه يروج لأجواء الانتقام الثأري الذي لا يهتم بأن يوقع القصاص بمن ارتكب الجرم، ولكنه يعمل بمبدأ شيوع التهمة، فأي فرد من الإخوان يصبح مستحقاً للعقوبة، وأي منتمٍ للجماعة يصبح محلاً لسخط وغضب أتباع المعارضة. من أساليب التدليس أيضا استخدام التشويش العاطفي، وهنا يتم استدعاء كل حالات القتل، والسحل، والتعذيب، التي جرت منذ بداية الثورة وحشدها أمام الرأي العام كما لو كانت منسوبة للجماعة على نحو حصري، حتى يختلط على الناس الأمر، ويقتنعوا بأن جماعة الإخوان تجني ما قدمت يداها، وأنها تستحق ما جرى لأعضائها، لأنهم في النهاية مسؤولون بطريقة ما عن كل الانتهاكات التي جرت منذ بداية الثورة وحتى يومنا الحاضر. ولكن مستخدمي هذا الأسلوب من أساليب التدليس لا يكلفون أنفسهم توضيح طبيعة العلاقة التي تربط بين الإخوان وبين كافة هذه الحوادث. فمعظم الانتهاكات التي يتم استدعاؤها لا يكون للجماعة دخل بها، ولكن يتم استدعاؤها فقط بهدف التشويش وتضييع الجريمة الأصلية. هذه التقنيات لا تشوش على الحقيقة فقط، ولكنها تسهم أيضا في تغذية مشاعر الكراهية في نفوس المعارضين للرئيس وجماعته السياسية، ليس لضعف أدائهم السياسي، ولكن لتوجههم الأيديولوجي. كما أن هذه الأساليب التدليسية تقدم الوقود الضروري لاستمرار هذه المشاعر، خصوصا أن هناك فريقا قد أخذ قراره بمعارضة الجماعة، أيا ما تكن طبيعة المواقف التي تأخذها أو القرارات التي تتبناها. ويعود تاريخ هذه الكراهية إلى عصر النظام السابق، ولكنها تأكدت بعد الثورة وأفصحت عن نفسها في مناسبات متعددة قبل أن تتحول إلى موقف مبدأي للمعارضة وسياسة ثابتة للإعلام. والحقيقة أن المعارضة والإعلام كان بإمكانهما أن يستغلا ضعف الأداء السياسي للإخوان بطريقة أفضل من تقديم غطاء لأعمال العنف، وذلك بتشكيل حكومة ظل تطرح حلولا حقيقية للمشاكل التي يعاني منها الوطن، ويعجز عن الوفاء بها نظام الإخوان، بما يحرج منظومة الحكم القائم، ويظهر عيوبها أمام الرأي العام، ولكن يبدو أن من يشجعون هذا العنف لا يدفعهم لذلك اختلاف الرؤى حول أفضل الطرق لإدارة الدولة، بقدر ما تحركهم دوافع أخرى ربما ترتبط بإعادة النظام القديم، أو مقاومة نجاح الإسلام الحركي بكافة الطرق. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية