وهكذا . . رحلت المناضلة أم نضال فرحات قبل أن تنعم ب “كل عام وأنت بخير” في عيد الأم الذي يحل اليوم وقد مضت أربعة أيام على رحيلها . رحلت “خنساء فلسطين” عشية عيد الأم، مقتفية أثر أبنائها الثلاثة وزوج ابنتها الذين استشهدوا تباعاً في معارك النضال المستمر ضد الاحتلال الصهيوني . حوّلت أم نضال خيال الشعراء إلى صور واقعية . يشهد أهل غزة قوة إرادتها وصبرها وهي تشيّع كل واحد من أبنائها كشهيد حين كان حياً، وكحي بعد أن أصبح شهيداً . كانت التجسيد الحي ل “أجمل الأمهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً . . ولم تنزو في ثياب الحداد” . ليست أم نضال سوى نموذج لآلاف الأمهات اللواتي يشيّعن أبناء أو أخوة شهداء، أو يفتقدن أسرى لدى احتلال بغيض، أو يرقدن بجانب أسرّتهم جرحى برصاصه المجرم . عيد الأم يمر ثقيلاً على أمهات الأسرى الذين يخوضون معركة أمعاء خاوية في سجون الاحتلال، ومنهم من تجاوز إضرابه مئتي يوم، فيما العالم أشبه بصمت القبور، والعرب والمسلمون مشغولون بمعارك غيرهم على أرضهم . عيد الأم يمر حزيناً على أم الأسير أيمن الشراونة الذي أبعدته سلطة الاحتلال قسراً إلى غزة لمدة عشر سنوات . عيد الأم يمر حائراً على اللاجئة أم ناصر أبو حميد التي اقتلعها الصهاينة من قريتها أم شوشة في نكبة عام ،1948 ثم نسفوا منزلها مرتين في مخيم الأمعري للاجئين، والتي ودّعت أحد أبنائها شهيداً ولم تكتحل عيناها برؤية سبعة آخرين تواجدوا معاً خلف قضبان سجون الاحتلال، ومنهم أربعة حكموا بالسجن المؤبد متعدّد المرات . يمر عيد الأم نسيماً يداعب أعيناً تنساب من مآقيها دموع على وجنات أمهات يعتصمن أسبوعياً أمام مقرات الصليب الأحمر، ويحملن شغاف القلوب وصور الأحبة الراحلين تحت الأرض أو القابعين في ظلام السجون . يفتقدن أم جبر وشاح التي حملت عن جدارة لقب أم الأسرى جميعاً، تلك الأم الكنعانية التي لم تغب يوماً عن زيارة أسرى تبنّتهم وجعلتهم جزءاً من برنامج زياراتها، كما كانت تفعل مع ابنها جبر وشاح قبل أن يتحرر . عندما كان المعلّمون يطالبون تلاميذهم الصغار، بأن يكتبوا موضوعاً عن عيد الأم، فإن أول ما كان يتبادر لأذهانهم بيت أحمد شوقي: الأم مدرسة إذا أعددتها . . . أعددت شعباً طيب الأعراق . كبر التلاميذ وترعرعوا تحت الاحتلال وأصبح للأم معنى أعمق مما كانوا يحسّون، وإحساس عصي على أي معنى . اليوم يحط عيد الأم على مهبط الذاكرة فتصطف في استقباله ثلة من باقات الورد . . تعزف الموسيقا حنيناً إلى خبزها وقهوتها ولمستها . تحضر الأمهات الراحلات الى ذاكرة أبنائهن . . يعطين للحضور معنى غير مألوف أو مزيج من غياب الحضور وحضور الغياب . يمنحن دفق الحب والحنان لأبناء رضعوا مع حليبهن عشق الوطن والاستعداد للتضحية لأجله . . لأبناء قال فيهم محمود درويش إنهم يعشقون أعمارهم لأنهم إذا ماتوا خجلوا من دموع أمهاتهم . في عيد أجمل الأمهات تتناثر ورود المجد والفخار على أمّهات الشهداء والجرحى والمعتقلين في كل مكان، يطحن الموت أبناء وأمهات وآباء وأخوات وأخوة، وتنتعش الآمال في القلوب والعقول المتفائلة بأن يكون الغد أفضل وأصفى وأنقى، بلا نهب واستغلال واستبداد وجهل واستعمار واستحمار . وفي عيد الأم، يرتقي منسوب الثقة بأن المستقبل لحياة تنتصر على الموت، لحياة تنتصر لمن ينتصر لها . نقلا عن صحيفة الخليج