والدى هو مثلى الأعلى.. و«هيلين كيلر» ملهمتى كتبت بقدمى وفمى.. وأقول لذوى الاحتياجات الخاصة: «اكتشفوا قدراتكم» داخل الإذاعة التى عايشها على مدار عامين، أو يزيد، حلم بعيد المنال، أسند رأسه للوراء، وزفر كمن استراح بعد رحلة شاقة، ثم أطلق عبارته: لم يخطر ببالى ذات يوم أن أكون رمزًا ضمن سلسلة رموز إذاعة القرآن الكريم. وحينئذ، وبعد تعاقب سنوات الرحلة التى بدأت من مدرسة «كفر الشيخ إبراهيم» مركز قويسنا بمحافظة المنوفية، لم أتوقع -وأنا الطفل مجهول الطالع، الطارق على أبواب قدر الله- أن أصل فى منتهاها إلى هنا، غير أنى ممتن لمسيرة مرصعة بالرفض، والصد. يتذكر «رضا عبدالسلام» لحظة بسط قدمه على الأرض، واضعًا قلمه بين إصبعيه، وهو يتهيأ لكتابة أولى كلماته، وتغمره ذات حكى عن والده مسحة حنين مقيم: علمنى الكتابة بقدمى، وأصر على إلحاقى بالمدرسة، وهناك تدربت على الكتابة بفمى، وأتقنت ذلك. لم يتوقع خريج كلية الحقوق بتقدير «جيد جدًا» أن تسوقه خطاه للعمل الإذاعى، وعلى كونها رغبة بعيدة الفكرة، تبلورت، وتنامت بعد لقاء مع الكاتب الصحفى عبدالوهاب مطاوع بجريدة الأهرام، وقتئذ، لمعت فى خاطره، وألقاها على محرر بريد الأهرام دون أثر لأمل. وعلى حين تجرى مقادير الشاب الذى روّض اليأس، وقيده رغم ضمور ذراعيه، خاض منفردًا مشقة التجربة، رفضته لجنة إذاعة القرآن الكريم فى أولى تجاربه، وساقه صدق الأمنية إلى إذاعة وسط الدلتا، فاختمرت أحلامه على مقربة من ميكروفون إذاعى إقليمى، وأشرق صبح التحقق بعد عامين داخل إذاعة القرآن حين كان «حلمى البلك» رئيسًا للإذاعة آنذاك. تنقل رضا عبدالسلام طوال مسيرة استمرت نحو ثلاثين عاما ما بين البرامج الحوارية، والمسجلة، وصار اسمًا إذاعيًا محفورًا فى وجدان المصريين عبر برامجه «قطوف من السيرة، مساجد لها تاريخ، وسيرة ومسيرة»، وعلى تدرج الصعود اتكأ الحالم على زوجة لم تخذله، وطموح لا سقف له. المذيع الذى اعتبر تفاعل الشعب المصرى مع اختياره رئيسًا لإذاعة القرآن الكريم «مشهدًا تاريخيًا»، لم يغفل امتنانه للرئيس عبدالفتاح السيسى المساند لتمكين ذوى الهمم، معربًا عن أمله فى أن تثمر تجربته عن تطور فى أداء الإذاعة العريقة. عن تجربته المراوحة بين المحنة، والمنحة، ومحطات الألم، والأمل، وخطته للتطوير الإذاعى، ورؤيته لمستقبل دولة التلاوة، كان ل«الوفد» هذا الحوار:- كيف كان الرفض على امتداد رحلتك؟ الرفض كان عنوان الرحلة، المدرسة، الشغل، الزواج، كل مرحلة كانت بدايتها الرفض. كيف كنت تحكم قبضتك، وتتخلص من مرارة مشاعر ما بعد الرفض؟ كنت أحاول أن أحيا حياتى بالثقة، والقدرات، فى كل مرحلة من مراحل حياتى. تحدثت كثيرًا عن أثر الوالد فى صد الإحباط، واليأس.. فإلى أى مدى كان أثر والدتك؟ الوالد تحديدًا كان حائط الصد، لأنه كان يدفع عنى الأثر النفسى، ودائمًا كان يحفزنى بزرع الثقة، والقدرة، أما والدتى فهذه سيدة عظيمة، ورغم كونها أمية، كانت تعلم المتعلمين كيف تكون الحنان، والحرص على الأولاد، وكانت علاقتها مليئة بالحنان، الذى لم أجده دائمًا فى حياتى، وخاصة أنها أم لثمانية أبناء، وكنت أنا رقم 3 فى الأسرة، وولادتى كانت صدمة بالنسبة لها، لأنها فى النهاية أم. إلى أى شىء ترجع الصدمة، هل لأن المجتمع ريفى؟ لا، هو صعب على كل المجتمعات. من أين استمد الوالد قدرته على المواجهة؟ استمدها من إيمانه بالله، ثم إيمانه بى، وحرصه على استخراج قدراتى، وهذه مهمة من حوله، هو الذى علمنى الكتابة، وأصر على تعليمى، وإلحاقى بالمدرسة، ولولا صموده فى إلحاقى بالمدرسة ما كنت هنا. كيف كانت ملامح تفوقك أثناء المرحلة الابتدائية؟ كنت فضوليًا، وأسئلتى كثيرة، وهذا على كونه تعبيراً عن أن ثمة شيئاً ناقصاً وأسعى لاستكماله، وعندئذ تعلمت الكتابة برجلى، ثم بفمى، وهذه أشياء جعلتنى محط أنظار الأساتذة. هل تذكر أول مدرس بشّر بقدراتك الذهنية، وتفوقك الدراسى؟ نعم، أذكر الأستاذة فادية، هذه صاحبة الفضل الأول، وهى أول من استقبلنى، وأحاطتنى برعاية فائقة، وحنان منقطع النظير، وهذا ما ربطنى بالمدرسة. متى أدركت أن ثمة طموحاً داخلك؟ فى كل مرحلة من مراحل حياتى كنت متفاعلًا مع المجتمع، وأرى من خلال دراسة شخصيات كثيرة من المعاقين أدعو إلى تفاعلهم مع المجتمع، وعلى المجتمع أن يساعده. - هل عشت الحب فى طفولتك؟ نعم، مثل أى تلميذ، وتجربتى الأولى، والأخيرة هى تجربة زوجتى، لأننى لم أنتبه لهذا الأمر إلا بعد التخرج. ومن كان مرجعيتك، أو مثلك الأعلى خلال تلك الفترة؟ والدى فقط، ولم يكن أحد سواه. وفى عموم الرحلة، من الذى ألهمك؟ «هيلين كيلر» -الأديبة الأمريكية- هى ملهمتى دائمًا، لقد تعلمت منها الإيمان، وكلما قرأت قصتها أستشعر قوة خاصة تسرى فى جسدى. هل كان التحاقك بكلية الحقوق رغبة، أم تنسيق؟ حصلت على المركز الثانى فى الثانوية العامة، والتحقت بكلية الحقوق، عن رغبة، ولم يكن فى خاطرى الالتحاق بالعمل الإذاعى، وكنت متفوقًا بكلية الحقوق، وحاولت الالتحاق بالقضاء، لكن الرغبة وقعت فى دائرة الرفض، ورفضت العمل بالمحاماة. وكيف تبلورت رغبة العمل الإذاعى؟ هذه الرغبة جاءت بشكل قدرى، وتولدت بعد لقاء بالأستاذ عبدالوهاب مطاوع، وأثناء اللقاء نقلت له رغبة العمل الإذاعى، فأرسلنى لأحد الإذاعيين، ورفضنى بطريقة مهينة. كيف التحقت بإذاعة طنطا؟ رئيس إذاعة طنطا فى ذلك الوقت علم بالموضوع، فقال لى تعال، وستفعل ما تريد، وهناك عملت بكل شىء داخل الإذاعة، وبعدها بعامين دخلت اختبارات إذاعة القرآن الكريم مرة أخرى، وكان رئيس اللجنة «حلمى البلك»، وقلت له: أعطونى فرصة مثلما تمنحوها للناس، وقبلنى، ووقع قرارًا لالتحاقى بإذاعة القرآن الكريم عام 1990. هل تتذكر تفاصيل يومك الأول بالإذاعة؟ هذا يوم تاريخى فى حياتى، وقفت أمام الميكروفون وقلت: إذاعة القرآن الكريم من القاهرة. بماذا شعرت آنذاك؟ حياتى عبارة عن مجموعة من المحن تتبعها مجموعة من المنح، وشعرت فعلًا أن عبارة «إذاعة القرآن الكريم من القاهرة» رسالة لكل من رفضنى فى حياتى، وملخصها «أنا موجود». وماذا عن تدرجك داخل الإذاعة فيما بعد؟ مكثت 6 أشهر أقول «إذاعة القرآن الكريم من القاهرة»، وبعدها ألحقت ببرنامج «مساجد لها تاريخ» بعد سفر مقدم البرنامج «رياض فهمى» للسعودية، وطوّرت البرنامج من الحديث عن المسجد كبنيان إلى إضافة تفاصيل العمارة، والتاريخ، ومكثت أقدمه 15 عامًا، بجانب برنامج «قطوف من السيرة». هل كان «قطوف من السيرة» فكرتك الخاصة.. وكيف بدأته؟ نعم كان فكرتى، واقترحته على رئيس الإذاعة، وبعده قدمت برنامج «مع الصحابة»، ثم «سيرة ومسيرة». هل وصلت لمنطقة الراحة بعد ذلك؟ لا، ليس لدىّ قناعة بمنطقة الراحة، لكن فى الإذاعة عملت كل شىء «البرنامج الحوارى، المباشر، نقلت شعائر يوم عرفة من مكةالمكرمة للإذاعة عام 2008، ونقلت أكبر مسابقة للقرآن الكريم، وأمسيات دينية على الهواء مباشرة». هل استعنت بتدريبات للعمل الإذاعى أثناء رحلتك؟ لا، أنا صوتى سالك الحمد لله، وعلاقتى قوية بالقرآن، والأدب، وكنت أكتب شعرا، لكن معينه نضب منذ 20 عامًا. حدثنا عن قصة زواجك، وإلى أى مدى غيّرت مسار حياتك؟ نشأت علاقة الحب بينى وبين زوجتى أثناء التدريس لها، وهى فى مرحلة الثانوية العامة، وكنت فى السنة النهائية بكلية الحقوق، ولم تكن الرحلة سهلة، لأن طبيب صحة بالقرية تدخل لمنع الزواج، وأقنع والدها قائلًا: كيف تعطى ابنتك لواحد كهذا؟.. وحينئذ، ذهبت له، وقلت له: الذى يقف أمامك مذيع بإذاعة القرآن الكريم، ولا يوجد فى المحافظة كلها 3 مثله، هل تعتقد أن يدى ليست موجودة فهذا يعنى أنى لست موجودًا، والمدهش أنه كان طبيبًا، وكان عندى إصرار، ورغم أنى ضعفت بعض الوقت، هى لم تضعف أبدًا، وقلت لها: هذا الطفل مجهول الطالع، الذى يطرق على أبواب قدر الله، جلس على كرسى رئاسة إذاعة القرآن الكريم، وهى أكبر إذاعة فى العالم. عاصرت عددًا من قراء القرآن الكريم المحسوبين ضمن رموز دولة التلاوة، برأيك ما الفارق بينهم، وبين الجيل الحالى من القراء؟ لكل زمن رجاله، لكن كبار دولة التلاوة لهم خصوصية، وأظن أن الزمن لن يجود بمثلهم. هل لديك خطة للنهوض بمستوى القراء؟ لدينا خطة لزيادة رقعة التلاوات القرآنية الموجودة، وإضافة تسجيلات لم تكن موجودة للقدامى، والجدد. سبق أن أعلن د. أحمد مصطفى رفض الإذاعة لتسجيلات الشيخ مصطفى إسماعيل بسبب صياح الجماهير، هل هذا صحيح؟ فى حالة وجود تسجيلات ذات صياح جماهيرى زائد تتم معالجتها داخل الإذاعة، ولم أسمع بعرض تلاوات الشيخ مصطفى إسماعيل من قبل. هل وضعتم شروط لاعتماد قراء جدد وفق خطة التطوير؟ لدينا لجنة اختبار قراء، ومبتهلين، وليس لها نظير فى العالم، لأن القارئ عندنا يجب أن يكون حافظًا لكتاب الله، ومتقنًا للمقامات المناسبة للقرآن الكريم، وجار الآن تشكيل لجنة جديدة، وسأكون أحد أعضائها. هل ثمة نافذة للموهوبين للالتحاق بإذاعة القرآن الكريم؟ نحن نوجه رسالة لكل من لديه موهبة أن يتقدم للالتحاق بإذاعة القرآن الكريم. ما طموحاتك بعد رئاسة الإذاعة؟ أحلم بأن تكون الإذاعة نافذة لمن يريد أن يعرف دينه معرفة صحيحة سواء من خلال مادتها الأساسية «القرآن الكريم»، والابتهال «الذى ليس له مثيل فى العالم»، والبرامج الأخرى التى تمثل الدين الوسطى الذى ينبذ الإرهاب، ويدعو للوحدة، والوئام. هل لهذه الخطة مدى زمنى؟ أسعى الآن لإعادة البرامج إلى خطها الصحيح، بمعنى أن تمثل البرامج أهدافها، ومضمونها تحت شعار «استقيموا يرحمكم الله»، وبعد ذلك شيئًا، فشيئًا.. يلاحظ البعض أن ثمة فواصل إعلانية تتخللها لغة عامية لا تناسب خط إذاعة القرآن الكريم؟ هذه الإعلانات معظمها لأعمال خيرية، وحتى لا نسبب ضيقًا للمستمعين خصصنا لها 10 دقائق نهارًا، ومثلها ليلًا، دون أن تتخلل البرامج. إذا كانت لديك رسالة أخيرة تريد أن توجهها، ما هى، ولمن؟ أنا شديد الامتنان للشعب المصرى لاستقباله لى كرئيس لإذاعة القرآن، وأشكر القيادة السياسية برئاسة الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى أنصف ذوى الهمم، لأن فى عصره تبوأ رضا عبدالسلام -أحد رموز هؤلاء- موقعه الذى يستحقه، كما أشكر نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعى لدعمها لى، وحرصها على تهنئتى برئاسة الإذاعة. وأقول لذوى الهمم: «عليك الاعتماد على نفسك، واستخراج القدرات لإثبات ذاتك، لأنك إذا لم تفعل ذلك، فلن ينفعك أحد»، أما الشباب فأقول لهم: «إنما مصر إليكم، وبكم.. وحقوق البر أولى بالقضاء/ عصركم حرٌ، ومستقبلكم بيمين الله خير الأمناء».