غريب كان الهواء البارد يدخل الى المقهى مفتوح الأبواب من كل جانب فشعر عادل بأنه يكاد يتجمد، وكان أخشى ما يخشاه هو ان يمرض أو يصاب بنزلة برد تفسد عليه أيامه، فقام يتمشى في المحطة حتى يسري بعض الدفء في أطرافه وأخذ يتأمل المعمار الجميل الذي يحمل سمات العصر الفيكتوري بكل أبهته وبهاه. مال على دكة وأرخى جسده فوقها محاولاً ان يغفو، لكن البرد حرم جفونه النوم فقام يتمشى في طرقات المحطة وهو شديد العصبية، وأحس بالندم على مجيئه في هذه الظروف، وشعر ان روحه قد تطلع قبل ان يطلع النهار. بعد قليل توجه الى دورة المياه وكانت كبيرة ومتسعة للغاية وخالية من أي مخلوق، ثم وقف مواجهاً المرحاض يقضي حاجته. ابتسم وهو يستدعي صورة الرجل الذي أخافه منذ قليل وجعله ينصرف في فزع بعد ان كان المسكين قد تصور أنه اقترب من هدفه وان تخاريف عادل قد تصلح مدخلاً للحصول على موافقته!. فجأة انتبه على صوت حفيف ثوب وراءه وأحس بأن هناك من يراقبه، فمال بعنقه يستطلع الأمر وتسمّر لدى رؤيته رجلاً طويلاً ضخماً يقف خلفه الى اليمين ويطل عليه في شغف وهو يدفع الماء من مثانته الى حائط المرحاض. أصيب برعب مفاجئ فتوقف اندفاع الماء وقام بشد سحّاب بنطلونه ثم استدار ليواجه المتلصص الأثيم الذي يراقب المتبولين فوجده أصلع الرأس عريض المنكبين وعلى وجهه ابتسامة عريضة.ألجمته الحيرة فظل ينظر الى الرجل المبتسم وهو لا يدري ماذا يفعل.. وتساءل بينه وبين نفسه: لماذا كلهم مبتسمون؟ وما سر هذه الغبطة على وجوههم؟.. انه لم يصادف رجلاً من هذا النوع الا وكانت ابتسامته الواسعة تملأ وجهه.ترى هل هذا هو السبب في اطلاق اسم أو صفة gay ومعناها (مرح) على هذا النوع من البشر؟.. حقيقة كلهم مرحون ولاد الجزمة.. فهل هذا المرح أصيل فيهم قد زودتهم به الأقدار حتى تكون حياتهم سهلة؟ وهل هو مؤشر على سعادة حقيقية؟. الله يخرب بيتك يا نجم.. أين أنت بحق الشياطين والأبالسة.. أين أنت بحق المثليين والشواذ؟ أحس أنه يشبه صابر بطل رواية «الطريق» لنجيب محفوط الذي تعلقت آماله في الحياة بالعثور على أبيه. مر بجوار الرجل وغادر دورة المياه وهو يشعر باشمئزاز عظيم واستقر رأيه على الذهاب الى الفندق وليكن ما يكون.. لا يريد مشتريات.. لا يريد ملابس.. يريد فقط ان يتدثر وان ينام بعد ان يأخذ حمّاماً ساخناً. لكن رده عن عزمه استمرار هطول الأمطار في الخارج، كما ان الساعة قد قاربت الرابعة، وكلها ساعة واحدة على الأكثر وتبدأ الحركة وتفتح الحوانيت ويمتلئ المكان بالناس.. اصبر يا عادل.. اصبر.. هكذا قال لنفسه. أشرقت الشمس وبدأ الناس يتوافدون على المحطة وكان التعب قد هده فاستسلم للنوم وهو يجلس متكوراً على دكة خشبية، فقام وأخذ يتمطي ويتثاءب ثم توجه الى مكتب الأمانات فأخذ حقيبته وأخرج منها فرشاة الأسنان والمعجون وثياباً جديدة ودخل الحمّام ثم خرج في حالة طيبة وتوجه الى الاستعلامات يسأل عن بيوت الشباب فأعطته الموظفة بعض العناوين.سألها ان تكمل جميلها وتتصل بأحد هذه البيوت لتتأكد من وجود مكان خال.قامت الفتاة بجولة تليفونية ثم مطت شفتيها في يأس وأخبرته ان كل بيوت الشباب مشغولة بسبب اقتراب موعد الكريسماس. خرج من المحطة حائراً وسار على مهل يتأمل المتاجر المحيطة بمحطة فيكتوريا ثم عبر الطريق وشاهد أوتوبيسات السياح ذات الطابقين تقف أمام مبنى كبير يصطف أمامه الناس ثم أبصر لافتة مكتوب عليها «قصر باكينجهام».. هذا هو اذاً القصر الملكي الشهير.سار بحذاء القصر ثم أبصر حديقة الى الجهة الأخرى فمضى اليها ووجد اسمها حديقة سان جيمس.اشترى ساندوتش وكوباً من الشاي وجلس أمام البحيرة الصناعية التي يسبح فيها البط وتحلق حولها طيور النورس في منظر بديع. بعد ان أشبع ناظريه من الطبيعة الجميلة غادر الحديقة وعبر بوابة أفضت به الى طريق فوجد الى يساره ميدان «ترافالجر» الشهير الذي يسميه العرب ميدان الطرف الأغر.ضحك على هذه التسمية العجيبة، وتذكر ان هناك من العرب من يشتط فيسمى «شكسبير» شاعر الانجليز العظيم «الشيخ زبير» بعد ان يزعم أنه كان في الأصل عربياً!!. جلس في الميدان الذي يملأه الحمام ويتجول فيه في طمأنينة يلتقط فتات الطعام من أيدي الناس دون ان يخشى منهم أي غدر أو حركات نذالة.. و طاف بخياله ان هذا الحمام لو حط على الأرض دون طيران لخمس ثوان فقط بأحد الميادين في القاهرة لوجد نفسه محشواً فريك بعد دقائق!. استغرب لأنه أحس نفسه سعيداً ونسي ليلة الأمس الطويلة المزعجة.يبدو ان الليل يشترط السكينة والجدران الأربعة.. فان غابوا تحول الى عذاب.أما النهار فجميل بصخبه وضوضائه وازدحام طرقاته بالناس والسيارات. نقلا عن صحيفة االخليج