لا أنتمي لجيل الشباب فقد غادرته منذ زمن بعيد ولم ألحق بعد بجيل الشيوخ.. أي أنني في تلك المرحلة التي تقف علي السلم.. حالي في هذا حال جيلنا وجيلين سبقونا ولحقونا.. وقفنا جميعاً علي السلم.. فلم نصل لأحلامنا قط ولم نرتكب الخطايا حتي يتم مساءلتنا عما فعلنا.. لم تأخذ تجربتنا مبلغ التمام بل كانت دائماً مبتورة منقوصة.. كانت تجربتنا دائماً في حضانة الحصار والزجر في زمن الاستمرار البيولوجي لجيل لم يقض نحبه قط وظل جاثما علي قلب الوطن.. حتي عندما تم قلعه ونزعه كانت بصماته الدامية وأثاره الآثمة والمشوهة قد ألقت بظلالها القاتمة علي قدرة النهوض والفعل.. جيلنا هذا شهد في حياته ثورة أو انتفاضة.. وشاهد أباؤه أيضا ثورة أو انقلابا.. لا أعرف بالضبط حجم الاختلال الذي أصاب مشاعر وحياة أبي في أعقاب 52 وتحولاتها ونحن بالطبع لسنا من المتضررين ماديا بحال من إجراءات ما بعد 52.. بل من المستفيدين من مجانية التعليم.. ولكن أبي كان وفديا نحاسي الهوي فلم يكن عاطفا علي 52 وإجراءاتها. .. غرس فيّ محبة الوفد وعشق النحاس وحساً نقدياً لما أقدم ويقدم عليه النظام من عبدالناصر إلي السادات .. واصطحبني تلميذاً لأشهد مانفيستو عودة الوفد عندما ألقاه سراج الدين في نقابة المحامين.. بالطبع عشت رحلة مبارك من البدء للسقوط.. فكنت معارضا رافضا لمبارك وللعسكر وللفاشية الدينية.. وللتجهيل والجهل المقصود والفقر والإفقار المتعمد.. عرفت الفاشية الدينية وقرأت تاريخها في بلادنا وفي غير بلادنا فكانت نموذجا شديد البرجماتية في استخدام الدين لأغراض دنيوية.. وكانت شديدة الانتهازية في التحالف مع كل طاغية من أجل الوصول إلي مقاعد الحكم والتسلط.. لحقت بعيني الفاشية العسكرية في اكتمالها وفي مراحل غروبها وكذا الفاشية الدينية في تطورها وصولاً لحصد تراكمات اتفاقاتها وتكتيكاتها.. وتسليم الوطن من الفاشية للفاشية ونحن غارقون في حصاد الحصار والمنع واختفاء الجماعية وفقر ميزانية العمل والحشد.. ولطالما أجهدت ذهني لمحاولة البحث عن إجابة كيف تعامل أبي وهو يواجه الخروج من عباءة الليبرالية الواسعة إلي حديدية الفاشية العسكرية وقهرها.. كيف اندثرت الأحلام وتم طيها في جيوب الزمن.. كيف خفق القلب عندما مات الزعيم في أغسطس 65.. وكيف انكسرت النفس عندما حل يونيو 67.. وكيف عادت الأحلام مع بشارة عودة الوفد.. أجهدت ذهني طويلاً لاسترجع ميراث أبي في مواجهة تلك النوازل وكيف تفاعل معها هو وأبناء جيله وكيف ساروا مع الأيام ولم تكن قط أيامهم.. أسترجع كل هذا وأنا أطل علي عام مضي حمل لنا في أحداثه وتتابعاته الفاشية الدينية وهي تستعيد أياماً سيئة طوتها الإنسانية مع اختفاء هتلر.. وها هي جماعة الإخوان اليوم تحاول صبغ وجه الوطن بمعالم الطغيان ووسائل الاستبداد البائدة وعدم الإكتراث بحقوق الثورة والشعب الذي مهد بدمائه وشهدائه الطريق لوصولهم لسدة الرئاسة.. قد أكون منتميا جيل تمكنت من بعضه جينات اليأس ولكن بذور الأمل والمقاومة لم تزل حية في ظل أجيال مصر الشابة الهادرة المهمشة التي خرجت وحطمت قلاع القهر.. هذه الأجيال لم تخرج لترعي اتفاق نقل السلطة من الفاشيين للفاشيين ولم تخرج لتضع الوطن في قبضة التجار والكمبرادوريين المتسترين بشعارات دينية ليستمر الحال علي ما هو عليه في ضفة التبعية للقوي الكبري.. ولم تخرج مصر كلها ليتم إرهابها بأحاديث الترويع وافتعال الحشد واستدعاء الميليشيات.. لقد خرج الشعب لينتزع حق الحياة والوجود والوطن الحر الذي يمتلكه مواطنون أحرار..!!