عندما قال الفيلسوف البريطانى الايرلندى الأصل «إدموند بيرك» ممثل الليبرالية الكلاسيكية أثناء اجتماع له مع مجلس العموم البريطانى «تجتمع هنا تحت سقف البرلمان ثلاث سلطات، التشريعية، التنفيذية، القضائية، ولكن هناك في قاعة المراسلين تجلس السلطة الرابعة وهي أهم منكم جميعاً» كان ذلك قبيل نهايات القرن الثامن عشر، ومنذ ذلك التاريخ، رسخ الفيلسوف البريطانى مفهوم الصحافة كسلطة رابعة، سلطة لا تملك من السلاح إلا القلم، ومن الآليات إلا الحقيقة والضمير، تغوص بالقلم فى قلب الحقائق والأحدث، وتكشف للشعوب ما خفى وما كان، فالصحافة هى مرآة الشعوب، وهى ايضا مرأة تعكس مدى الحرية والديمقراطية التى تتمتع بها هذه الشعوب، أو مدى القمع والديكتاتورية المفروضة عليه. ومفهوم السلطة الرابعة للصحافة تعاملت به الدول المتحضرة والديمقراطية فيما بعد خاصة فى عهود الثورات بالدول الأوروبية وعلى رأسها فرنسا، حتى وإن لم تنص على ذلك حرفيا فى دساتيرها أو قوانينها، وفى التاريخ المعاصر نصت دساتير معظم دول العالم على ما يكفل حرية الصحافة والاعلام عامة، وعدم المساس بها، وأصبحت السلطة الرابعة تترجم فيما تتمتع به الصحافة من حرية فى التعبير وورد هذا المعنى فى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجاء به «لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، ويتضمن هذا الحق حرية تبني الآراء من دون أي تدخل والبحث عن وتسلم معلومات أو أفكار مهمة عن طريق أي وسيلة إعلامية بغض النظر عن أية حدود». ولعبت الصحافة أدوارا مهمة فى مصر للدعوة للتحرر من الاستعمار البريطانى ومن ثم الفرنسى، وكان لها ادوار بطولية فى طرح قضايا مصر ومطالبتها بالاستقلال أمام دول العالم بالخارج رغم حدودية تطورها والقيود التى كانت مفروضة عليها، كما استطاعت الصحافة المصرية في فترات الحرية أن تقاوم عودة الاستعمار ومذاهبه ودعواته وأن تؤيد الحرية، وكانت الصحافة في مصر دوما في مقدمة الصحف العربية وأكثرها توزيعا في العالم العربي لما تمتعت به من هامش حرية، حتى فى فترات المحاصرة والقهر التى شهدتها بين حين وآخر فى عهود رؤساء مصر السابقين عبد الناصر، السادات، ومبارك. قد تكون هذه المقدمة طالت أكثر من اللازم، ولكن لزم الاسترشاد بها، للتأكيد على دور الصحافة فى مصر تاريخيا ووطنيا، وكيف كانت الصحافة المعاصرة فى مصر خاصة الحرة منها أو المستقلة هى عين الشعب وضمير الوطن، وكانت ولا تزال كذلك رغم امكانياتها المالية البسيطة التى لا تقارن ابدا بالملايين التى تقدمها الحكومات المتعاقبة على مصر للمؤسسات الصحفية القومية، حتى تكون الصحف بهذه المؤسسات القومية أبواقا للنظام، تدافع عنه بحق وباطل، وتروج له بمناسبة وبلا مناسبة، تغطى على فساده وتصفق لانجازاته الوهمية، وهى منظومة تم توارثها خلال العقود الماضية، وكنا نعتقد انه بعد الثورة سيتغير الحال، ولكن بدلا من تطهير هذه المؤسسات لتتناسب مع مطالب ومعطيات الثورة التى قامت من أجل الحرية والعدالة والعيش الكريم، لم يحدث أى تطهير بل تبديل للاشخاص والمقاعد ليؤدوا نفس الدور الخادم للنظام، وزاد فى المشهد الكارثى قفز الاخوان على السلطة، واختطافهم للثورة، الأمر الذى أصاب الشعب والصحافة الحرة بالصدمة، صدمة تهدد كل الحريات المصرية المكتسبة منذ عهود مضت. إن الصحافة المصرية تعيش الآن عهد انتكاسة لم تشهده حتى فى أيام مبارك، بفرض المزيد من الرقابة على الحريات الصحفية قبل الدستور، وأصبح الآن أسلوب المصادرة والمنع والاغلاق والمحاصرة للاعلاميين عامة والصحفيين خاصة تتم بأسلوب ممنهج، تمارس خلاله جماعة الإخوان فكرها القمعى الاستبدادى، لتكميم الصحافة الحرة، وتسويس وتسيس الصحافة الموالية للنظام لتحقيق المزيد من مكاسبهم السياسية، بأسلوب استفزازى متبجح فاق كل ما ارتكبه الحزب الوطنى إبان قوته وصولجانه، والآن خلال هذا الدستور اللا دستورى، خرجت علينا المواد المتعلقة بالحريات الصحفية أسوأ مما كانت عليه مواد دستور 1971، فلم يتضمن الدستور الجديد نصا يلغى حبس الصحفيين فى جرائم النشر، أو إلغاء عقوبات تعطيل أو إيقاف الصحف بصورة إدارية أو قضائية. إننا نعيش كارثة حقيقية وارتدادة غير مسبوقة للحريات، ومحاولات واضحة لقصف الأقلام الحرة، ولكن هيهات أن نستسلم لفاشية الرأى والحرية والفكر، هذه الفاشية التى تحاول أن ترث مصر بعد نظام فاسد اسقطته ثورة دفعنا ثمنها دماء الشهداء الأبرار، وأقول لكم، لن تسكت الأقلام، فقول يا قلم واياك تخاف لحظة ندم، قول يا قلم وابدر حروفي قنابل تصبح حصاد الجبارين، القلم... سيف صارم وقول فاعل يهز النفوس ويزعزع الجيوش، القلم... سهم لا يخطئ ورمح يعرف قاتله، يقتل بلا دماء ويجرح بلا أداة، القلم... ضربات بيد حامله ورحمات بيد فاعله، يؤثر ولا يتأثر.