أعتذر عن استكمال مقالى الثالث عن رحلتى لأستراليا وانطباعاتى عنها، وأؤجل ذلك لبعض الوقت، فى ظل احتدام المشهد السياسى فى مصر لدرجة لم يكن يتخيلها أكثر المتشائمين، فما كنت أظن أن دستور مصر بعد الثورة يمكن أن يتم إعداده بمثل هذا الشكل الذى يمثل إهانة واستهانة بكل جموع الشعب الذين حلموا بدستور يعبر عن المرحلة الجديدة، ويلبى كل مطالب القوى الثورية وأحلام الشهداء فإذا به دستور يعود بمصر مئات السنين للوراء، بدلاً من أن يستشرف المستقبل وتتوافق عليه كل جموع الشعب، فإذا به يصدر فى منتصف الليل، بعد أن استقال من لجنته التأسيسية كل القوى الوطنية ولم يتبق غير تيار واحد هو الذى أعد الدستور ليعبر عن وجهة نظر وحيدة ولتذهب باقى القوى الوطنية للجحيم. إنه دستور مطعون فى شرعيته تم إعداده وسلقه سريعاً، حتى يصدر قبل صدور حكم المحكمة الدستورية العليا فى شأن مدى دستورية هذه اللجنة التى صوتت على مواده فيما يقرب من عشرين ساعة متواصلة فى سباق للزمن، ووأدت أى صوت معارض حتى من بين أصحاب الفصيل الواحد الذى أصدر هذا الدستور المعيب، وأغلبهم لا علم لهم لا بالتشريع ولا بالمواد الدستورية، وكل ما يهمهم هو أن يتضمن هذا الدستور مواد معينة، تكبت الحريات وتكبلها، ونتقنن وضعاً مأساوياً تعيشه البلاد.. لتمرير كل قرارات وإعلانات الرئيس الدستورية لإلباس الباطل ثوب الحق. دستور جاء فوق جثة القانون الذى ديس بالأقدام من أكبر سلطة فى البلد، والتى أقسمت على احترام القانون والدستور، فإذا هى أول من يطيح بالقانون وبأحكام الدستورية العليا. دستور رفضه القضاء، ورفضته كل القوى الوطنية ولكن دون جدوى، وها هو السيد الرئيس يطرح الدستور للاستفتاء دون حتى أن يقرأ منه مادة واحدة، والأنكى أن القضاة أعلنوا رفضهم الإشراف على الاستفتاء على الدستور، ولكن صاحب الأمر لا يبالى، وهناك من يقترح أن يقوم أساتذة الجامعات أو المحامون أو أعضاء النقابات الفنية بالإشراف على الاستفتاء، وليذهب الإشراف القضائى إلى الجحيم، فما عاد القضاء فى هذا الوطن سلطة، بعد أن استحوذ السيد الرئيس على كل السلطات. وما حدث أمام مقر الدستورية العليا يوم الأحد الماضى، من حصار لفصيل الإخوان المسلمين لمبنى المحكمة ومنعهم من دخولها، هو ليس فقط إهانة للقضاء وللمحكمة الدستورية العليا بل هو جريمة يعاقب عليها القانون الذى يمنع أى شخص أو قوة سياسية من تعطيل أحكام القانون ورأينا هتافات تسب قضاة الدستورية وتتوعدهم بوضع جثثهم فى أجولة وقد وقفت الشرطة تتفرج ولا تتدخل، وولاة الأمر فى هذا الوطن سعداء بهذا المدد، الذى يناصرهم، حتى لو كانت نصرته هى نصرة الباطل وليس الحق. وأتصور لو أن ما جرى كان هو العكس ولو أن القوى الوطنية هى التى حاصرت مبنى المحكمة الدستورية العليا، لجاءت الشرطة لضربهم بالقنابل المسيلة للدموع والخرطوش وسحلت وقتلت ما شاءت بدعوى الدفاع عن الشرعية والقانون. ولكن مادام ما يحدث يقوم به أنصار الفصيل الحاكم، فليذهب القانون والدستور وكل من يتشدد لهم إلى الجحيم، وكل من يقف فى وجه هذا الفصيل، هو فى نظره متآمر ويسعى للتخريب ومن الفلول الذين يقفون أمام الرئيس المنتخب بنسبة 51٪. لقد نجح الرئيس مرسى وبامتياز فى تقسيم هذا الوطن الذى وحدته الثورة، تلك الثورة التى أكل وشرب على أشلائها فصيل واحد انتهز فرصة تاريخية ليسطو على كل شيء فى هذا الوطن، وكل من خالفهم الرأى هو خائن وعميل. إن القوى الثورية فى مصر تدفع الآن ثمن تشتتها وانقسامها السابق فى مواجهة فصيل منظم، يجمع أعضاءه بكل السبل ولو كانت أكياس السكر والأرز وزجاجات الزيت، وها قد توحدت القوى الثورية والليبرالية أخيراً ومتأخراً، ولكن الفرصة لاتزال قائمة.. لرفض هذا الدستور المعيب.. ومنع تزوير إرادة الأمة. أكتب مقالى هذا صباح مليونية الثلاثاء، وقد أحاطت المدرعات وقوات الأمن بقصر الاتحادية لتحميه من القوى الوطنية التى اعتزمت التظاهر والاعتصام هناك ضد هذا الدستور المعيب، وما كنت أتخيل أنه بعد مائة وخمسين يوماً فقط من حكم الرئيس مرسى أن ينجح فى تقسيم الوطن بهذا الشكل.