تقف غزة، مرة جديدة، وحيدة في وجه الجلاد. تنهال عليها الطائرات بالحديد المُعدّ لأجساد الأطفال الهشة. فيرد أهل القطاع بما ملكت أيديهم من فتات السلاح. لا مجال مع غزة وفلسطين إلا الانحياز الى الضحية، الى القتيل، الى الطفل المحتضر، الى العاجز عن انتزاع حقه رغم سطوعه كالشمس. لا مجال إلا للتضامن مع من يخسر الساحة الدولية والمعركة الاعلامية ويعاني التهميش والإهمال المقصود من الأقربين والأبعدين. الصحيح والضروري اليوم هو تأييد رد اهل غزة على محاولات اجنحة اليمين الاسرائيلي المزايدة في التطرف، بدماء الفلسطينيين. والضروري هو أن يفهم الجمهور الاسرائيلي ان الألاعيب الانتخابية بين نتانياهو وليبرمان وباراك، ستكون مكلفة اذا حاول هؤلاء استثمارها في ما يبدو كأرض مستباحة امام الغطرسة الاسرائيلية. رغم ذلك، يصعب اغفال الشعور بانجرار الفصائل المسلحة في غزة الى الحفرة التي حفرها نتانياهو. ومن الضروري أيضاً رؤية ان الجولة الحالية من القتال هي الأولى منذ نهاية الانتفاضة الثانية ورحيل الرئيس ياسر عرفات، التي تخوضها قوة أعلنت انفصالها عن «محور الممانعة» (الإيراني – السوري)، وبالتالي عن منظومة مصالحه واعتباراته، في وجه الجيش الاسرائيلي. عليه، لن يكون من السهولة على المحور المذكور توظيف النتائج واستغلال المآسي التي قد يسفر عنها القتال اليوم، في آلته السياسية والدعائية. ما يعني ان «رسملة» التضحيات الفلسطينية في حسابات النظامين الايراني والسوري، قد انتهت. كلام المسؤول في «حماس» خالد مشعل واضح في هذا السياق. بيد أن بين الابتعاد عن التوظيف المركنتيلي للتضحيات الفلسطينية من جانب قوى خارجية، وبين مراكمة التضحيات ذاتها في اطار سياسة وطنية مستقلة ذات برنامج تحرري واضح، بون شاسع. فالساحة الفلسطينية ما زالت منقسمة وما من إشارة واحدة تقول بقرب تشكيل الفلسطينيين وحدة سياسية ما. وخيبات الامل، من اتفاق مكة الى اتفاق القاهرة وجولات المفاوضات المتنقلة، بين التيارين الفلسطينيين الكبيرين، «فتح» و «حماس»، لم تبرح مرارتها الأفواه بعد. ولا مفر من الاعتراف أن المواجهة العسكرية الحالية تجري وفق افضل الشروط لاسرائيل، والأسوأ للفلسطينيين. ورغم التغيير الكبير الذي حصل في مناخ المنطقة جراء الثورات العربية وسقوط نظام حسني مبارك الذي ساهم في حصار غزة بدل ان يساندها في حرب كانون الاول (ديسمبر) 2008، إلا ان ذلك لا يبدو كافياً في إحداث تغيير استراتيجي في الوضع الفلسطيني. وعلى هذا المستوى، يظهر أن العطب الداخلي الفلسطيني من العمق والخطورة بحيث يغري، أولاً، حكومة نتانياهو باستغلاله مراراً وتكراراً وابتزاز السلطة في رام الله وحكومة غزة، مع مطلع كل شهر واستحقاق دفع الرواتب للعاملين في مؤسسات الحكم الذاتي وشن الحروب الصغيرة على القطاع كلما رغبت اسرائيل بذلك، ويشجع بعض الفلسطينيين على تكريس الوضع القائم والبحث فيه عن منافع ضيقة، ثانياً. وان ردود الفعل الفلسطينية وسهولة وقوع الفصائل في الشراك الاسرائيلية، بل المساهمة في نصبها من طريق عمليات استعراضية، ثالثاً، تجعل من العسير الرهان على أي تغيير في «العقل» الذي يدير المعركة من جانب الفلسطينيين. والأخطر، ان الجميع يعرف بانسداد الافق أمام هذا النوع من العمل الفلسطيني، وان «عملية عمود السحاب» ستكون نتائجها، على الصعيد الفلسطيني، نسخة عن «عملية الرصاص المصبوب»، وان جل ما يمكن ان يجنيه الفلسطينيون من القتال الحالي هو منع الحكومة الاسرائيلية من جني ثمرة عدوانها، فيما سيظل الانقسام الداخلي معيقاً لأي تقدم حقيقي على طريق استعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. نقلا عن صحيفة الحياة