أرجو ألا تكون قد انتابتني حالة من التشاؤم الحاد إزاء ما يجري في منطقتنا العربية وإطارها العام في الشرق الأوسط الكبير. ولكن كل المؤشرات المتاحة حاليا والمعلومة بيقين تجعل تجاهل ما يحدث نوعا من الغفلة. وما نراه الآن يمكن إيجازه فيما يلي: أولا أن هناك حربا أهلية دائرة بالفعل في سوريا، بدأت كواحدة من نتائج ما سمي «الربيع العربي»، يصاحبها حالة من الاختلال الأمني الحاد في كل دول الربيع، على الأقل مقارنة بما كانت عليه قبل ذلك. وثانيا أن التيار الإسلامي بأشكاله المختلفة قد دانت له السيطرة على الثورات العربية من خلال صناديق الانتخابات من ناحية، أو من خلال الفاعلية السياسية والعسكرية إذا لم تتيسر هذه الصناديق بعد. وفي الحقيقة، لا توجد معضلة في وجود التيار الإسلامي، فهو من ناحية له وجود أصيل داخل الساحة السياسية لا يمكن تجاهله، كما أنه من ناحية أخرى لا يمكن تجاهل إرادة الناس واختياراتها طالما أن هذه الاختيارات لن تكون مرة واحدة، وأن هناك خيارات أخرى في المستقبل. المشكلة هنا نجمت من وجود نزعة تسامح كبيرة لدى هذه التيارات، وفي المقدمة منها الإخوان المسلمون، مع التيارات «الجهادية» العنيفة نتيجة تصور إمكانية التعاون معها، أو ترويضها، أو التعاطف معها باعتبارها تعرضت لعنت الأنظمة السياسية السابقة. نتيجة ذلك أن السجون فتحت على مصراعيها لخروج «مجاهدين» سابقين لا يزال لديهم الإصرار على إخضاع الدولة والمجتمع لما يرونه المجتمع الإسلامي الصالح. كما فتحت في نفس الوقت المطارات لاستقبال الآلاف ممن كانوا يجوبون الآفاق العالمية في أفغانستانوباكستان والشيشان والبوسنة والهرسك وألبانيا وغيرها من مواقع تغيير العالم في اتجاه تيار متشدد ومتعصب. وثالثا أن المنطقة العربية والجوار القريب منها تبدو وكأنها قد أصبحت موطنا جديدا لجماعة القاعدة ومتشابهاتها التي تولدت في الدول العربية تحت أسماء شتى، ولكنها موجودة في المغرب ومالي وليبيا والجزائر ومصر واليمن وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين. هذه أصابعها العنيفة والقاتلة تظهر في عمليات تدمير مالي، واغتيال السفير الأميركي لدى ليبيا، وما تم الكشف عنه من خلية مدينة نصر في القاهرة، بالإضافة إلى التمركز في جبل الحلال في سيناء، والعمل على توريط مصر في حرب مع إسرائيل، وفي العنف الزائد الذي يظهر أحيانا خلال الحرب الأهلية السورية، وفي القواعد المتمركزة في اليمن. المسألة على هذا النحو تبدو مشيرة إلى أن معركة «الحرب العالمية ضد الإرهاب» تنتقل تدريجيا بقضها وقضيضها من باكستانوأفغانستان إلى المنطقة العربية. مثل هذا التطور له طبيعة استراتيجية كبرى، لأن العالم كله لن يصبغ منطقتنا بالإرهاب فقط، فقد فعل ذلك منذ وقت طويل على أي حال، وإنما معناه أننا سوف نصبح ساحة كبيرة للتدخل العالمي، من خلال أجهزة المخابرات، والعمليات الخاصة، التي لن تردعها مبادئ السيادة، ولا حرمات الدول. ورابعا أن هناك حربا جارية بالفعل لها صلة بما أشرنا إليه من قبل، ولكنها مستقلة عنها بظروف ومواصفات ليس هنا مكان ذكرها، ولكنها تساهم بقوة في رفع الحرارة العسكرية في المنطقة. هذه الحرب تجري بين إيران وحلفائها من ناحية، وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى. وربما كانت الغارة الأميركية على مصنع السلاح في الخرطوم، بكل تعقيداتها، وما ظهر على النظام السوداني من انكشاف عسكري، واحدة من حلقات متتابعة من العمليات التي جرى بعضها في السابق، وسوف يجري ما هو أكثر منها في المستقبل. هنا لا يمكن استبعاد الحرب الإلكترونية التي جرى استخدامها ضد التجهيزات النووية الإيرانية من قبل، واحتمالات تكثيفها خلال المرحلة المقبلة. ولكن النتيجة هنا لن تكون سارة بالمرة؛ فالمعسكر الإيراني الأضعف بامتياز سوف يجد نفسه مضطرا لاستخدام أسلحة الضعفاء التي تجوز فيها العمليات الانتحارية، وتستباح فيها دماء الدبلوماسيين والسائحين، وباختصار كل ما يمكن تسميته بالأهداف الرخوة أو الناعمة. وخامسا وأخيرا أن الملكيات والإمارات العربية التي صمدت في مواجهة كل هذه الأعاصير والبراكين أصبحت هي الأخرى هدفا من خلال هذه المرحلة. ولا يمكن وصف الضغوط الجارية على دول الخليج العربية تحت رايات زائفة للديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا بأنها محاولات لإسقاط آخر واحات الاستقرار في المنطقة. ليس معنى ذلك أننا نستبعد الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان من جهود الإصلاح في الدول العربية، ولكن الثابت أنه لا يمكن إقامة ديمقراطية تستند إلى أفكار متعصبة ومتشددة ولديها غلو في التعامل مع العالم، وليس لديها ما يمنع أحيانا من استخدام العنف والقتل ضد المسلمين أنفسهم وغيرهم من بني الإنسان. وعلى الرغم من أنه لا يمكن وضع كل التيارات الإسلامية في سلة واحدة، فإنه لا يمكن اعتبار جماعات منها ذات طبيعة معتدلة ومتسامحة وتتماشى مع جوهر الدين الحنيف في قبوله بالمساواة بين بني البشر، ما لم تتخذ موقفا واضحا وحاسما من الجماعات الأخرى التي كانت طوال التاريخ الإسلامي مرفوضة ومنبوذة، لأنها لا تأخذ بيد البلاد العربية نحو التقدم، وإنما تأخذها إلى الوراء وتجعلها منكبة على نفسها وغريبة على كل أشكال التقدم العالمي. هذه المظاهر الخمسة لما يجري في منطقتنا تجعلها من ناحية ساخنة تتصاعد فيها رياح العنف الجزئي في مناطق متعددة تبدو منفصلة عن بعضها. ولكن هذا النوع من العنف لا يبقى عادة على حاله، وإنما وهو المرجح تاريخيا، فإنه لا بد من انفجار أعظم يحدث على عدة جبهات أو على جبهة واحدة كبرى. هكذا كان الحال في أوروبا طوال القرن التاسع عشر وأدى إلى الحرب العالمية الأولى، كما كان الحال هناك أيضا خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكان في قلبه الحرب العالمية الثانية. ومن يتذكر حالة شرق آسيا وجنوب شرقي آسيا خلال سبعينات القرن الماضي سوف يجد جذورها تعود إلى الخمسينات، بل إن ما حدث في الشرق الأوسط مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ثم بعد ذلك الغزو الأميركي لأفغانستان والعراق، لا يمكن عزله عن التطورات التي جرت منذ اغتيال الرئيس السادات، وربما ما كان قبلها من أحداث. السؤال الطبيعي في هذه الحالة هو ما الذي يمكن عمله إزاء ما يجري؟ أم أن ما يحدث هو واحدة من قوى الطبيعة التي لا يجوز إلا محاولة التقليل من آثارها، وإصلاح ما نتج عنها، كما يجري الآن في التعامل مع آثار إعصار ساندي؟ الأسئلة لا شك كثيرة، ولكن الاجتهاد في الإجابة عنها واجب، المهم في ذلك أنه لا يمكن لأحد أن يضع رأسة فى الرمال . نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط