أظهرت التطورات الأخيرة المتصلة بالوضع في سوريا مرة أخرى أن تركيا باتت رهينة تحالفها مع الغرب والتزامها بالضوابط التي وضعتها الولاياتالمتحدة تحديدا. وكان يقال ذلك دائما عن القوى العلمانية وعن المؤسسة العسكرية. حيث إن التاريخ القريب لتركيا لم يخرج عن كونه أداة في المنطقة للمخططات الغربية ولاسيَّما لضرب النماذج التي حاولت النهوض بالعرب ولاسيَّما التجربة الناصرية. وقد وصل الأمر أن عارضت أنقرة التصويت لصالح استقلال الجزائر في الأممالمتحدة. ولم يختلف الأمر حتى مع بعض القادة الأتراك الذين كانوا ينحون منحى اشتراكيا في الالتفات إلى قضايا العمال ومنهم بولنت أجاويد الذي أنهى حياته المشرقة بتعاون غير مسبوق مع الولاياتالمتحدة في آخر حكوماته في نهاية التسعينيات وقبل العام 2002. وعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002 لم يخرج نهج الحزب في السياسة الخارجية كثيرا عن الحكومات السابقة. فالحكومة برئاسة عبد الله غول نفسه وفي ظل سيطرة حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان على البرلمان هي التي طلبت مشاركة أمريكا في غزو العراق عام 2003. وصوّت إلى جانب مذكرة الحكومة 254 نائبا من الحزب لكن تمرد حوالي تسعين نائبا على غول وعلى أردوغان هو الذي حال، بالتعاون مع قوى المعارضة الأخرى، دون نجاح المذكرة في البرلمان في التصويت المشهور في مطلع مارس 2003. ورغم التقارب التركي مع دول الجوار فيما سمي سياسة "صفر مشكلات" ولاقى اعتراضات أمريكية فإن تركيا لم تخرج عن الخط الغربي. فالانفتاح التركي مثلا على سوريا كان يتزامن مع سعي أنقرة للتوسط بين دمشق وتل أبيب للوصول إلى تسوية سياسية. كذلك في ذروة الانفتاح التركي على العرب كان عبد الله غول يعقد في قصره الرئاسي في خريف 2007 اجتماع قمة بين الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز والرئيس الفلسطيني محمود عباس. وفي ذروة التأييد الإعلامي للقضية الفلسطينية خصوصا في واقعة دافوس بين رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان والرئيس الإسرائيلي بيريز فإن أنقرة أبدت دائما اعتراضها على إطلاق صواريخ من قطاع غزة على إسرائيل ولم تساهم في دعم المقاومة المسلحة لحركة حماس. كذلك فإنه رغم مقتل تسعة ناشطين أتراك في حادثة أسطول الحرية على يد القوات الإسرائيلية فإن أنقرة لم تبد ردة فعل متكافئة واكتفت بتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع استمرار العلاقات الاقتصادية بل هناك ازدهار مطرد في حجم التبادل التجاري بين البلدين منذ حادثة مرمرة وحتى الآن بنسبة زيادة سنوية لا تقل عن 35 في المائة. ومع أن أردوغان قد اعترض على خطط الناتو لمهاجمة ليبيا بعد الثورة على معمر القذافي غير أنه بدّل رأيه بعد وقت قصير وصار شريكا في العمليات العسكرية. اليوم تصاعد التوتر بين تركيا وسوريا عبر مجموعة من الأحداث أولها إسقاط سوريا لطائرة حربية تركية في 22 يونيو الماضي. وبعدها تكررت وفقا لأردوغان انتهاكات سورية للسيادة التركية متمثلة بسقوط قذائف على الأراضي التركية. لكن سقوط قذيفة سورية في الثالث من الشهر الجاري ومقتل خمسة مواطنين أتراك كان سببا لرد تركيا المدفعي بل أيضاً استصدار مذكرة من البرلمان بتفويض الحكومة استخدام القوة في عمليات خارج الحدود. مع ذلك فإن الردّ التركي بدا ضعيفا للغاية. ومع أن الأسباب تعود إلى أن عملية مقتل خمسة مواطنين لا تستدعي حربا ولا حتى عملية عسكرية مضادة وهي أمور تحصل في مثل الظروف التي تمر بها سوريا غير أن عدم الرد بعمل عسكري كبير رغم تهديدات أردوغان ورئيس أركانه نجدت أوزيل يعود بشكل أساسي إلى أن قرار الحرب كما السلم في الحالة السورية ليس قرارا منفردا لهذه الدولة أو تلك. وفي الصراعات ذات الطابع الاستراتيجي الدولي تنكفئ الدول المتوسطة القوة والصغيرة عن أن تكون صاحبة قرار حاسم أو مستقل. وقد وجدت تركيا نفسها، في كيفية الرد على سوريا، في مأزق عدم قدرتها على أن تكون بعد دولة مؤثرة في الصراعات الإقليمية والدولية خصوصا في ظل وضع بالغ التعقيد مثل الوضع في سوريا. وهو ما يجعلها أكثر ارتباطا بالقرار الغربي- الأمريكي ويضعف من سعيها لتكون قوة مؤثرة و"لاعبا مؤسسا وطليعيا في شرق أوسط جديد ترسم تركيا ملامحه وتقوده بنفسها"، كما يقول وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو نفسه، وهذا في أساس الحملة المتجددة على داود أوغلو تحديدا الذي رسم سياسات غير واقعية وغير قابلة للتطبيق إلا في الكتب. نقلا عن صحيفة الشرق القطرية