أعتقد أنني مدين باعتذار لقارئ «الشرق الأوسط» حينما وصفت الرئيس باراك أوباما بأنه «محظوظ» في مقالي منذ أسبوعين. بالتأكيد كان ذلك حكما متعجلا خاصة في الجزء الخاص بالمناظرة الأولى بين الرجل ومنافسة ميت رومني، حيث توقعت أن «يسحق» الأول الثاني. كان ذلك حكما بالظواهر والسوابق أكثر منه فحصا للعوامل والعناصر والمتغيرات التي جرت في الساحة الانتخابية الأميركية على مدى الأعوام الماضية. لم يكن أوباما محظوظا أبدا بتاريخه وشخصه وما كان عليه مواجهته فور دخوله إلى البيت الأبيض، ومن ثم كان كل شيء من الناحية الواقعية ضده. ولكن كان هناك أمران لصالحه: أولهما أن الأمور الاقتصادية كانت في طريقها للتحسن؛ وثانيهما أن منافسه كان عديم الموهبة والقدرة. هنا جرى تثبيت عوامل ما كان ينبغي تثبيتها وهي موهبة أوباما نفسه في الخطاب والمناظرة والتواصل السلس مع الجماهير. من جانب آخر جرى إهمال شديد لقدرة الإنسان بالتدريب والإصرار على التغيير، وتحقيق ما كان مستبعدا تحقيقه. جرت المناظرة بين أوباما ورومني كما يقول المنطق أن تجري، فالظروف الاقتصادية مع بعض التحسن فيها، والبعد عن حافة الهاوية، فإن نسبة البطالة لا تزال عالية (8.1 في المائة) وهي أعلى من الحد المتعارف عليه لفوز المرشح المقيم في البيت الأبيض. وإذا كانت البطالة في الصدارة، فإن ارتفاع أسعار الطاقة واحتدام عدد من الأمراض الاقتصادية الأخرى، كان فيها ما يكفي لكي يسقط أوباما. ولكن الحقيقة هي أن أوباما لم يكن ساقطا، وعلى الرغم من كل شيء فقد كان متفوقا في استطلاعات الرأي العام على مستوى الولاياتالمتحدة، كان متفوقا في الولايات التي تكفل له الأغلبية في المجمع الانتخابي، وفوق ذلك فإنه كان متفوقا فيما يسمى الولايات الحرجة التي يكون الفوز فيها مرجحا لفوز واحد من المرشحين. كان هذا الفارق لصالح أوباما على الرغم من كل شيء يجعله محظوظا كما ذكرت في المقال السابق، لما يتمتع به من شباب ومن حيوية تظهر في كل تحركاته. وكان هذا الوصف صادقا حتى جاء وقت المناظرة التي كان التوقع العام لدى كل أركان الإعلام الأميركي يضعها كإضافة لكفة أوباما التي بدأت تميل بالفعل في اتجاه الفوز. ولكن ما جرى كان أمرا آخر حينما جلست في منزل صديق بمدينة برينستون في الولاياتالمتحدة مع آخرين لكي نشاهد على شاشة كبيرة المناظرة بين المرشحين. قبل ذلك بساعات كانت الشبكات التلفزيونية قد أعدت عدتها من استعدادات لاستطلاع الرأي العام، إلى التعرف إلى آخر ما جرى التدريب عليه لدى المرشحين، وتاريخ الأخطاء الكبرى في تاريخ المناظرات بالولاياتالمتحدة، التي لحسن الحظ أكاد أكون قد شاهدتها جميعا منذ عام 1980 عند المواجهة بين جيمي كارتر ورونالد ريغان، حينما قال الأخير قولته الشهيرة التي حسمت الانتخابات كلها حينما وجه حديثه للناخبين سائلا: هل أنت الآن أحسن حالا عما كنت عليه قبل أربع سنوات؟ بعدها توالت الشروح والبحوث حول نقاط القوة والضعف، وبالتأكيد كانت الظروف لصالح رومني، أما الشخصية والخبرة والكاريزما فقد كانت لصالح أوباما، وساد التصور أن هذه الأخيرة هي التي ستحسم المعركة. المفاجأة كانت أن ما جرى كان لصالح رومني على جبهة الظروف والشخصية. التركيز على جانب الظروف كان سهلا، فما كان على رومني أن ينطق أرقاما كثيرة لكي يظهر أن الظروف الاقتصادية في الولاياتالمتحدة لا تزال صعبة على كثيرين من الشعب الأميركي. وفي الحقيقة فإن عدد الدقائق التي تحدثها رومني كانت أقل بأربع دقائق عن تلك التي تحدثها أوباما، حيث لم تكن المناظرة محكومة بيد من حديد كما كانت العادة، وإنما كان فيها قدر من المرونة يكفي لتجاوز الوقت المتاح. ولكن رومني كان منطلقا وكأنه لا يصارع رئيس الولاياتالمتحدة، وواحدا من أكثر المحاورين براعة؛ كان بسيطا سلسا، ولديه القدرة على مناوأة أوباما بأن معلوماته غير دقيقة أو غير صحيحة كلية، ومن وقت لآخر كان يعود إلى عدد من العناوين التي تجعله ليس أسير الحاضر، وإنما متطلعا إلى المستقبل، خاصة عندما يؤكد على أن أساس فلسفته هو «النمو» أي التشغيل، أي الوظائف والعمل، أي زيادة الضرائب وتقليل العجز في الموازنة العامة، وهكذا أمور. أوباما كان العكس في كل شيء، فقد بدا منذ البداية مرهقا، ولديه قدر كبير من الضغط العصبي المعبر عن غضب مكتوم، خاصة كلما كانت الهجمات ساخنة. بعد ذلك لم تكن هناك مفاجآت على الإطلاق في نوعية الحجج التي تحدى بها رومني حتى عندما كانت الحجة قوية، مثلما ربط بين زيادة العجز المتوقعة من سياسة رومني، وعلم الحساب، فقد بدا الأمر غير مفهوم للمواطن العادي بينما كان أوباما يطرحها كما لو كانت أشد الأمور منطقية. وبينما كان رومني يوجه حديثه إلى أوباما مباشرة أو إلى الجمهور، فإن أوباما كان دائما مشغولا بكتابة الملاحظات، بحيث لا تلتقي عيناه لا بالمتحدي له ولا الجمهور الذي يطلب رضاءه. كان هناك أمر خطأ في استراتيجية أوباما للمناظرة، إذا كانت هناك استراتيجية على وجه الإطلاق. والمرجح إما أن أوباما لم يجد لديه وقتا للتدريب على المناظرة، أو أنه كان واثقا من نفسه إلى الدرجة التي جعلته لا يقوم بما يجب عليه القيام به، أو أنه كان مدركا أن منافسه لديه أسلحة كثيرة كان يخشاها. ويبدو أن ذلك هو ما كانت تعرفه ميشيل أوباما زوجة الرئيس التي أبدت تخوفها من المناظرة في لقاء تلفزيوني قبلها. على أي الأحوال فقد ظهرت النتيجة في النهاية في غير صالح أوباما في كل الأوجه من أول القدرة على القيادة وحتى السياسات التي سيطبقها. ولم يمض وقت على الإطلاق حتى أعلنت الشبكات التلفزيونية ليس فقط فوز رومني بل أعلنوا حدوث انقلاب في ساحة الانتخابات الأميركية. هل هذا صحيح؟ أعتقد أن الحكمة تقتضي عدم المغامرة بالتقدير مرة أخرى، ولكن الحرص لا يغني عن القول إن هناك عددا من العناصر التي يجب وضعها في الحسبان. أولها أن هذه هي المناظرة الأولى، وهناك مناظرتان أخريان، وثالثة بين المرشحين لنائب الرئيس، وهذه يمكن أن تعدل من أمور كثيرة. وثانيها أن أوباما لم يستخدم أسلحة كثيرة لديه ضد رومني وتركها تصدأ خاصة ما تعلق منها بالموازنة العامة، أو النمو المتوقع، أو تخفيض الإنفاق الحكومي، أو زيادة ميزانية الدفاع في وقت زاد فيه العجز في الموازنة العامة. وثالثا أن الأسابيع الباقية تعطي الفرصة لفريق أوباما لكي يستعيد القدرة من الدفاع إلى الهجوم. ورابعا أن الإعلام الأميركي لا يريد للمنافسة أن تهدأ، أو تكون مضمونة لأحد الطرفين، ومن ثم فإنه سوف يقلب الكفة الآن على رومني بعد أن كان معظمها موجها نحو أوباما. نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط