لست ممن يعتقدون أن كل من صوت بنعم في الاستفتاء علي تعديل تسع مواد من الدستور، قد صوت لصالح الإخوان المسلمين، وتيار الإسلام السياسي بشكل عام، فقد رأيت داخل لجان الاستفتاء وخارجها كثيرين ممن فعلوا ذلك، إما اقتناعاً بجوهر التعديلات باعتبارها خطوة للأمام لا شك فيها، قياساً لنصوصها القديمة في دستور 1971، وإما لفكرة بات تقلق قطاعات واسعة في المجتمع المصري، وهي غيبة الاستقرار، وأن التصويت بنعم هو خطوة في رأسهم نحو إعادته، وإعادة مؤسسات الدولة والحكم إلي العمل كسابق عهدها، لوقف التدهور الاقتصادي، وعودة فئات اجتماعية كثيرة إلي أعمالها، بعد أن توقفت تماماً عنه جراء الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. لكن ذلك لا يمنع من أن عوامل دينية وغير سياسية قد تحكمت في رفع نسبة المصوتين بنعم إلي 77.2٪ من بين نحو 18.5 مليون مواطن ممن شاركوا في التصويت، رصدتها تقارير صحفية غربية ومحلية، مشاهدات شخصية بالإضافة لملاحظات المنظمات الحقوقية التي راقبت يوم الاستفتاء وبينها المجلس القومي لحقوق الإنسان. وفي هذا السياق تم رصد عدد لا يستهان به من الرشاوي المادية والعينية التي كانت توزع علي طوابير الناخبين في الأحياء الشعبية، والقري والمناطق الريفية لحثهم علي قول نعم، بالإضافة إلي الأكاذيب التي تم ترويجها بمكبرات الصوت من فوق منابر المساجد وأمام لجان الاستفتاء، ومنشورات تم توزيعها بكثافة علي شكل مواعظ وفتاوي دينية، تحذر من أن من يرغبون في قول »لا« هم النصاري ومن معهم من الكفرة والعلمانيين وأعداء الله والذين يرمون إلي إلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص علي أن الإسلام دين الدولة.. ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، هم يصوتون ب »لا« لأن الإلغاء لم يدرج بين المواد الدستورية المعدلة، وساهم في هذا الحشد الديني معظم المنتمين إلي التيار الإسلامي، من أعضاء وقيادات الجماعات الإسلامية الجهادية، والجماعات السلفية، والجمعية الشرعية وأنصار السنة وجماعة الإخوان المسلمين، وأعضاء من الحزب الوطني وحزب الوسط. ولم يكن من قبيل الصدفة، أن يصف أحد كبار الدعاة السلفيين وهو الشيخ »محمد حسين يعقوب« من فوق منبر أحد المساجد، نتائج الاستفتاء علي التعديلات الدستورية، بأنها »غزوة الصناديق« و»انتصار الدين« مؤكداً أن »الشعب قال نعم للدين«! كان من المتوقع والطبيعي أمام هذا الحشد الديني، الذي استخدم أساليب التخوين والترهيب والترغيب والتكفير لمن ينون التصويت بلا، والذي امتد علي مدار نحو أسبوعين، منذ صدور التعديلات وحتي يوم الاستفتاء عليها، في جميع وسائل الإعلام، وفي الفضائيات وفوق منابر الجوامع، أن تخصص بعض الكنائس سيارات لحشد الأقباط لنقلهم إلي حيث مراكز الاقتراع، وبرغم التحفظ علي هذا اللون من الحشد الطائفي، الذي يتصادم بطبيعة الحال مع المعايير الديمقراطية، ويفسد المشهد السار المبهج ليقظة الجماهير المصرية، التي بدت حشودها أمام صناديق الاقتراع بمثابة رسالة عن عزمها علي استعادة إرادتها الحرة، ورفضها لمن يسلبها منها، أو يعفيها من المسئولية، عن صياغة مستقبل وطنها، لكن الإنصاف يحتم قول إن الحشد القبطي لم يستخدم حججاً دينية للدعوة بالتصويت ب »لا«، وطرح كما طرح معظم المعارضين للاستفتاء أسباباً سياسية بدت في المناقشات والكتابات التي شارك فيها أطراف منهم، فيما كانت القوي الدينية الإسلامية، تسرف في ممارسة وصايتها علي المجتمع، بعنف التكفير، وبالزج بالمقدس المطلق في آتون الصراع السياسي، بما ينطوي عليه من تعال علي كل ما هو دنيوي ومتغير، وتشحن المجتمع بالانقسام والتمزق. الحشد الذي حدث لرفض التعديلات الدستورية، كان يتعلق بما حدث بالفعل، ولأسباب سياسية ودستورية، كان من بينها الشكوك المشروعة التي أحاطت بتشكيل اللجنة التي أوكل إليها المجلس العسكري مهمة إجراء التعديلات، والتي ضمت عضواً من مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن التوجه الإسلامي لرئيسها المستشار طارق البشري، الذي لم تكن نزاهته محلاً لأي تساؤل، بل هو انحيازه الأيديولوجي، وكان من الطبيعي أن يثير ذلك مخاوف الأقباط والقوي الديمقراطية في المجتمع، التي لم تجد قط إجابة عن تساؤلاتها، لماذا تجاهل المجلس العسكري مشاريع لتعديلات دستورية أعدتها أحزاب المعارضة ومنظمات أهلية حقوقية، ولماذا يتجاهل أحزاب المعارضة أصلاً؟ ولماذا لم يشأ أن يستعين باللجنة الأولي التي شكلت لنفس الغرض، وكان يغلب عليها بحق الجانب الفني؟ وهل يضفي هذا الاختيار لتشكيل اللجنة الثانية، أي مغزي سياسي علي توجهات داخل تركيبة المجلس العسكري؟ ومن بين الأسباب الأخري لقول »لا« أن تعديل الدستور يعني إعادة دستور 1971 للعمل، مع الإبقاء علي اختصاصات رئيس الجمهورية الذي يجري انتخابه لممارسة سلطات مطلقة، لا يعرف أحد كيف سيستخدمها، فضلاً عن أن الإسراع بإصدار التعديلات، سيقود إلي إجراء انتخابات تشريعية مبكرة، سوف تؤدي إلي خلل في تركيب المجالس التشريعية، لصالح بقاء الحزب الوطني وجماعة الإخوان المسلمين، أي أنها تعيد إنتاج الواقع الذي قوضته ثورة 25 يناير، وسواء كانت هذه المبررات تصح أو لا تصح، فهي في النهاية، مبررات سياسية ودستورية، في موضوع هو بطبيعته سياسي ودستوري، أما حشد الجماهير، لكي تقول نعم تحت شعارات دينية، وباعتبارها غزوة يجري التصويت فيها، مع الدين أو ضده، فهو حشد لا هو سياسي ولا هو دستوري، ولا صلة له بالتعديلات الدستورية، وينطوي علي تضليل للجماهير، ودفعها للتغيير عن آراء في الاستفتاء ربما لا تكون آراؤها الحقيقية، وقد تحول في النهاية إلي حشد طائفي آخر يهدد وحدة الوطن، ويفتح جبهات صراع من النوع الذي تحوله أي شرارة، إلي اقتتال طائفي. والذين يقولون إن من صوتوا بلا خائفون من الديمقراطية يتجاهلون بوعي أن الديمقراطية ليست انتخابات حرة ونزيهة فقط، وليست حكم الأغلبية فقط، ولكنها انتخابات حرة ونزيهة تجري بين جماعات سياسية ومنظمة، وفي بيئة سياسية تكفل لها منافسة متكافئة، وتخلو من أي عناصر غير سياسية، للتأثير علي إرادة الناخبين، سواء باستخدام الشعارات الدينية، أو المال السياسي، أو البلطجة، أو بإجراء الانتخابات طبقاً لقوانين تهدر إرادة الكتلة العظمي من الناخبين كما هو الحال في نظام الانتخاب بالمقعد الفردي. إن من قالوا »لا« علي التعديلات الدستورية، قالوا نعم لدستور جديد لدولة مدنية ديمقراطية برلمانية حديثة، تحكمها المؤسسات وحكم القانون الذي يشيع العدالة والمساواة، وليس لدولة يجري إعدادها لاستقبال استبداد ديني.