«صان تزو» في كتاب «فن الحرب» يقول إن أسهل انتصار ضد عدوك أن تهزمه من الداخل. سألني إنسان مصري بسيط يعمل فني كهرباء «أنا أعمل يومياً منذ مطلع اليوم حتي آخره لكي أعود لأسرتي ستة أولاد وأمهم ومعي رزق ربنا، فمن أين يرتزق هؤلاء الذين يقيمون في ميدان التحرير طوال شهور ومنهم من يأتون بهم من المحافظات وليس لهم أسر يعولونهم فأجبته بأن سبحانه وتعالي قال وقوله الحق «وفي السماء رزقكم وما توعدون» صدق الله العظيم. أقول لشعب مصر بأن لهم الآن رئيس منتخب في انتخابات شهد لها العالم بالنزاهة والرجل ورث بلدا ووطنا عريقا هزته فوضي شعب ثائر علي كل شيء وله مطالب لا تنتهي وكلها مشروعة ولكن الكثير منها لم يحن أوانها بعد، أهم إنجاز في تقديري يحسب للثورة هو صحوة شعب في القيام بدوره بعد أن ظل ستون عاماً يفوض للفراعين الذين حكموه أن يحددوا مصيره بدون أن يكون له أدني حق أن يدلي برأيه وأسوأ ما حدث هو هجوم ممنهج علي أركان الدولة وأهمها قضاء مصر الشامخ وأجهزة أمن مصر ومؤسسة القوات المسلحة مما أدي إلي عموم الفوضي في عام 1919 عندما ثار الشعب علي الاحتلال كانت له زعامات وطنية صف أول وثان وثالث وثق بها الشعب المصري القدير وحصل بعدها علي دستور 1923 وبناء عليه جاءت أنزه انتخابات في تاريخ مصر في ظل احتلال أجنبي وملك مستبد وخرج حزب الوفد بزعامة سعد زغلول باشا مكتسحاً بالأغلبية وتولي الوزارة الودية واستقال بعدها بعام بعد حادثة السردار ورفضه مطالب الاحتلال بخروج الجيش المصري من السودان وعاد سعد باشا رئيساً لمجلس النواب حتي وفاته، الآن أصبح لمصر رئيس نتفق معه أو نختلف معه ولكنه بأسلوب ديمقراطي وهو الذي كنا ننشده منذ أن جاء عبدالناصر أول فرعون مصري في العصر الحديث، وقرر إقصاء الديمقراطية بحل الأحزاب السياسية وخاصة حزب الوفد وزعاماته القديرة وأصبح هو الحاكم بأمره وأصبحت سمة الحكم هو أهل الثقة أهل الخبرة ووضع رجال القوات المسلحة في كل أجهزة الدولة بدءاً من الوزارات كلها حتي معظم سفراء مصر بالخارج كانوا ضباطاً وعلي رأس المؤسسات الاقتصادية ووضع الإخوان المسلمون في السجن والمعتقلات وأعدم زعماءهم وكل رجال الفكر والرأي والسياسة الذين يعارضونه في المعتقلات، يحسب للمجتمع الأمريكي التطور الديناميكي وخاصة بعد وثيقة الحقوق المدنية التي أعادت لزنوج أمريكا حقوقهم عام 1968 بعد أن ذاقوا الهوان والذل علي أيدي العنصريين البيض وأصبح سيد البيت الأبيض الآن رئيسا أسود اللون وكذا يحسب للمجتمع المصري أن وضع رئيساً لمصر إخوانياً بعد أن ظلت جماعة محظورة حلها النقراشي باشا عام 1948 ثم حلها عبدالناصر مرة أخري عام 1954 وأعادها السادات وسمح لها بالنشاط الديني وأصدر لها مجلة «الدعوة» والنشاط النقابي واتحادات الطلبة بالجامعات ثم غضب منها بعد مهاجمتهم له سياسيا ومن نشاطات الجماعات الإسلامية التي بدأت تتخذ العنف شكلاً لها وخاصة في الصعيد ضد سفور المرأة والاختلاط حتي في الجامعات والشارع وكان والدي رحمه الله محامياً لجماعة الإخوان والجماعات الإسلامية عامة وكانت حقبة السبعينيات فترة مليئة بالأحداث السياسية وعاصرت أحداثها المتعددة بشكل مباشر مع والدي رحمة الله وأذكر في أوائل السبعينيات دعوة للعشاء في منزلنا حضرها محمد عثمان إسماعيل وكان أمين التنظيم بالاتحاد الاشتراكي وإخواني النزعة وهو الذي أشار علي السادات بالإفراج عن الإخوان والسماح لهم بالنشاط مرة أخري وكان يومها يتناول هذا الموضوع مع والدي ورأيت زعامات الجماعة الإسلامية في الجامعة وخاصة كلية الهندسة وكلية الطب يحضرون لمكتب والدي لقضايا زملائهم عند أمن الدولة وأتذكر الطالب الشاعر بكلية الهندسة وائل عثمان وكان والدي يذهب للجماعة في الجامعة ويحاضرهم وقد أهدوه لوحة كبيرة للقرآن الكريم مازالت في غرفة مكتبه بمنزلنا، في هذه الحقبة أيضاً كان محامياً للجماعة الإسلامية المعروفة باسم جماعة التكفير والهجرة وكان زعيمها شكري مصطفي أعتقل أيام عبدالناصر وانشق عن جماعة الإخوان والمرشد حسن الهضيبي عندما أمرهم المرشد بان يتجنبوا التعذيب ويعترفوا بما يريدهم الأمن أن يعترفوا به فرفض شكري ومعه مجموعة صغيرة أنشقت عن الجماعة وكفرتهم في المعتقل وبعد الإفراج عنهم أيام السادات ظل أمن الدولة يطاردهم ويعتقل أعدادا منهم وكان شوكت التوني المحامي يفرج عنهم بالقانون والقضاء وأهم لقاء بينهم عندما جاءت قيادات الجماعة وكانوا خمسة أفراد أعدموا بعد ذلك في شهر مايو أو يونيو 1977 وطلبوا من شوكت التوني التنازل عن كل قضاياهم في المحكمة وحضر هذا اللقاء مصادفة الأستاذ محمد عبدالقدوس الصحفي بأخبار اليوم وسجل لقاء دام أربعة ساعات كان فيه حوار ديني مثير بينهم وبين محاميهم في منزلنا بالمعادي وبدأوه بأن الملائكة لا تدخل منزل يتواجد به تماثيل أو كلاب وكان شوكت التوني فقيهاً في دينه وغيورا عليه وله مؤلفات إسلامية ترجمت إلي لغات أخري مثل مؤلفة عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه الذي ترجم إلي الأفغانية وطبع هناك ثلاثون طبعة، وبعد ثلاثة أسابيع من هذا اللقاء اتصل بوالدي اللواء النبوي إسماعيل وطلب لقاءه لأمر يخص الأمن الوطني، فأجابه والدي ضاحكاً بأن آخر لقاء ظل في المعتقل عامين وعندما التقي مع النبوي إسماعيل أبلغه بأن الجماعة (التكفير والهجرة) اختطفت الشيخ الذهبي وزير الأوقاف السابق ويريده أن يتصل بهم بصفته محاميهم لإنقاذ الرجل وتفاصيل القضية في مقال آخر إن شاء الله، هذه الحقبة شهدت محاكمة صلاح نصر بتهمة تعذيب مصطفي أمين واستمرت المحاكمة عاماً كاملاً بها أسرار كثيرة وشهود مصريون بارزون وأيضاً عرب وانتهت بالحكم بأقصي حكم علي المرحوم صلاح نصر ولكن السادات أفرج عنه صحياً في نفس اليوم ولها مقال آخر إن شاء الله، وكان أيضا قضية كمشيش لعائلة الفقي مدعين بالحق المدني لما لحق بهم من تعذيب في السجن الحربي وكان بها فضائح تدين الحقبة الناصرية وحكم لهم القضاء بأكبر مبلغ تعويض في تاريخ القضاء وحضرت كل هذه القضايا مع والدي حيث كان محاميهم. وأيضاً تذكرت قضية ضباط مكتب المشير عامر الذين عذبوا بطريقة بشعة في السجن الحربي بعد مقتل المشير عامر وكان أيضاً لها أسرارها التي كشفت في القضية وغيرها من القضايا المثيرة في السبعينيات. بقي أن أذكر أن شوكت التوني كان المحامي الأوحد للإخوان المسلمين وكان الوحيد الذين كانوا يثقون به وحضر لهم في كل قضاياهم حتي وفاته وكنت أقابل كثيرا الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله في مكتب والدي أو بمنزلنا بالمعادي وأذكر التاريخ أن برغم العلاقات الوثيقة بين الإخوان ومحاميهم فهم يعلمون أنه لم يكن ينتمي للجماعة بل كان منذ صباه وفديا مصريا وطني قبض عليه في معظم القضايا السياسية قبل يوليو 52 وخرج عن الوفد مع ماهر والنقراشي ليشكلوا الحزب السعدي وبقي علي حبه للنحاس باشا وكل من دخل مكتبه للمحاماة وجدوا في مكتبه تمثالا برونزيا لسعد باشا وصورا للنحاس باشا ممضاة وأيضاً ماهر باشا والنقراشي باشا وإبراهيم باشا عبدالهادي. قبل وفاة والدي بيومين ذهبت معه إلي الإسكندرية لدعوة عشاء في منزل الدكتور شامل أباظة زوج ابنة النقراشي باشا وحضرها فؤاد باشا سراج الدين ومساء كانت مكالمة طويلة مع عمر التلمساني المرشد العام وكان الحوار عن قضية شباب الإسلام في المغرب التي حضرها شوكت التوني، فجراً توفي شوكت التوني وصباحاً اتصلت بفؤاد باشا سراج الدين والأستاذ عمر التلمساني وأبلغتهم بالنبأ الحزين وفي اليوم التالي كان سرادق العزاء مليء بالوفديين وجماعة الإخوان والخلاصة أن في سبيل الحق والحرية ورفعة مصر يستطيع الجميع أن يعملوا معاً ولا تعلوا مصلحة فوق مصلحة مصر. دكتور حسن شوكت التوني