ثورة 1919 كانت ومازالت أعظم ثروات مصر في تاريخها المعاصر ومن أعظم الثورات العالمية الثورة التي قال عنها أعظم الثوريين غاندي لسعد زغلول، «لقد تعلمنا الثورة من المصريين» وعظمة هذه الثورة أنها لاقت تأييد شعب مصر بأكمله لأنهم آمنوا بصدق نوايا زعمائه ونقاء أهدافهم وعندما ذهب سعد باشا الي المعتمد البريطاني سفير أكبر دولة وأعظم امبراطورية وقتها وكانت قد خرجت منتصرة من الحرب العالمية الأولي ومنتشية بالنصر فقابل سفيرهم سعد باشا بغطرسة وقال له أنت لا تمثل إلا نفسك وعلم الشعب المصري باللقاء فجمعوا توقيعات الشعب بأكمله من أسوان الي الاسكندرية لتفويض سعد باشا نيابة عن شعب مصر بالسفر بعد إعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون وقتها بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وقامت الثورة وسط مئات وآلاف الشهداء برصاص الانجليز، وهؤلاء الشهداء والمصابون لم يطالب ذووهم بتعويضات من الدولة مقابل تضحياتهم وكانوا عند ربهم أحياء يرزقون، وسافر الوفد المصري علي نفقته الخاصة ونزلوا في أرخص الفنادق وكان معهم أحد أثرياء مصر وكان يدفع أجرة الغرفة للفقراء من الوفد وقد سبقهم الي هذا محمد فريد باشا خليفة مصطفي كامل الذي ورث عن أبيه ثلاثة آلاف من الأفدنة وباعها كلها في سبيل قضية مصر ومات شريدا فقيرا غير نادم، وحتي قيام حركة يوليو 1952 كان زعماء مصر العظماء مثل النحاس باشا الذي عاش فقيرا ومات فقيرا وكان غنيا بحب شعبه، وخير مثال علي ذلك الملايين الذين مشوا في جنازته يهتفون «ماتت الحرية بعدك يا نحاس» لأن الشعب المصري شعب بداخله إحساسه بحقيقة زعمائه المخلصين، عندما أغتيل النقراشي باشا داخل وزارة الداخلية وهو رئيس وزراء مصر ووزير داخليتها كان حسابه في البنك سبعة عشر جنيها وصرف له الملك مبلغ خمسة آلاف جنيه لولديه هاني وصفية، عندما كان النقراشي باشا في نيويورك يعرض قضية مصر في الأممالمتحدة وقال كلمته الشهيرة هناك لبريطانيا العظمي أيها القراصنة اخرجوا من بلادنا.. أرسل خطابا لابنته صفية بأن الهدية التي طلبتها من والدها رئيس وزراء مصر تفوق طاقته المالية لأن ثمنها كان أربعة عشر جنيها ووجد هدية أفضل بستة جنيهات، الملك فاروق ملك مصر والسودان عندما قرر الزواج من ناريمان وكان فؤاد باشا سراج الدين وزيرا للمالية فطلب من وزير ماليته سلفة فسأله فؤاد باشا عن سببها وعلم أنها لشراء غرفة نوم جديدة لعروسته الملكة الجديدة فرفض فؤاد باشا وقال عنها إنها سلفة غير مبررة، عام 1947 تقدم الملك بطلب لمجلس النواب لإصلاح اليخت الملكي «المحروسة» وبعد عدة جلسات رفض مجلس النواب الطلب وطلب من الملك إصلاحه علي نفقته من المخصصات الملكية وهذا اليخت الذي يذهب بفاروق الي المنفي بعد يوليو 1952 تحول اسم اليخت الي «الحرية» وكان يذهب به جمال عبدالناصر مع أسرته لزيارة جزيرة بريوني في يوغوسلافيا مع الرئيس تيتو. روي لي جلال بك علوية رحمه الله منذ سنوات وكان قائدا لليخت المحروسة أنه فوجئ ذات ليلة في منزله مساء بجرس الباب وفتح الباب فوجد الملك فاروق عند الباب معتذرا عن قدومه في هذا الميعاد بغير سابق ميعاد فطلب أن يتناول معم وجبة العشاء بدون تكليف وأتوا لملك البلاد بالجبنة والخبز وجلس يشكو لجلال بك من النحاس باشا ومعاملته القاسية له، في حقبة السبعينيات كان لي شرف الذهاب مع والدي رحمه الله في زيارات أسبوعية وأحيانا أكثر لزيارة ابراهيم باشا عبدالهادي في منزله بالمعادي بجوار منزلنا وكانت هذه الزيارات تضم الكثير من السياسيين القدامي العظماء الذي قادوا الحركة السياسية الليبرالية في الفترة من ثورة 1919 حتي يوليو 52 ومعظمهم انبثقوا من حزب الوفد العريق ومنهم من انشق عن الوفد وأنشأوا حزب الأحرار الدستوريين وكان حزبا يضم نخبة من أعرق السياسيين ثم انشق عن الوفد من اختلف مع زعيمه النحاس باشا وأسسوا الحزب السعدي ثم حزب الكتلة الوفدية ومع ذلك بقي حزب الوفد قويا التف حوله غالبية الشعب المصري وفي عام 1976 ذهب فؤاد باشا سراج الدين لمقابلة إبراهيم عبدالهادي طالبا منه أن يكون رئيسا شرفيا لحزب الوفد الجديد فسأله عبدالهادي باشا: هل الجيش المصري ترك الحكم فأجابه سراج الدين باشا: بلا، فقال له عبدالهادي باشا: إذاً مكاننا الآن كتب التاريخ، وقبل سفر السادات الي كامب ديفيد ذهب الي مقابلة ابراهيم باشا عبدالهادي في منزله بالمعادي طالبا مشورته، حيث كان قد فاوض اليهود في اتفاقية الهدنة بجزيرة رودس عام 1949، إبراهيم باشا عبدالهادي كان زعيم الطلبة في ثورة 1919 العظيمة وكان خطيبا مفوها وحكم عليه الانجليز وقتها بالإعدام وخففوا الحكم الي الأشغال الشاقة وقضي خمس سنوات في السجن قبل أن يفرج عنه سعد زغلول باشا، وعند قيام حركة يوليو 52 حكمت عليه محكمة الثورة بالإعدام وخفف الحكم الي الأشغال الشاقة وأفرج عنه بعد حادثة المنشية، وفي عام 1977 علم الرئيس السادات أن عبدالهادي باشا يدفع إيجارا مقابل سكنه في منزله خمسين جنيها في الشهر منذ عام 1954 بعد محاكمته فأمر برد المبالغ التي دفعها ظلما ورد ملكية المنزل له وأمر بصرف معاش رئيس دولة له بمناسبة قرارات السادات، فعندما تولي الحكم جاءته رسالة من أب يشكو عدم قبول نجله بالكلية الحربية لأن والده كان قد سبق اعتقاله لأنه ينتمي الي جماعة الإخوان المسلمين وعلم السادات بصحة هذا القانون منذ أيام عبدالناصر فأشر علي قبول نجله في الكلية الحربية وكان هذا الوالد هو أحمد شوقي الاسلامبولي المحامي ونجله هو الضابط بالقوات المسلحة خالد الاسلامبولي الذي اغتال السادات، يوم اغتيال السادات كان هناك قرار ينتظر توقيعه وهو إضفاء رتبة فريق بالقوات المسلحة لعبدالمنعم عبدالرؤوف القيادي الإخواني الذي حكم عليه بالإعدام من مجلس قيادة الثورة وهرب وقتها من السجن الحربي الي خارج البلاد حتي أعاده السادات عام 1975 معفيا عنه وهو الذي قاد القوات التي حاصرت قصر رأس التين يوم 24 يوليو 1952 وأرغم الملك علي التنازل عن العرش ومغادرة البلاد، مصر كان بها أحزاب وكان بها زعماء. بقلم: د. حسن شوكت التوني