بعد يوليو 1952 أطلقوا علي فترة من أزهي فترات التاريخ المصري »العهد البائد« وبعد أكثر من ستة عقود علي يوليو ها نحن نترحم علي هذا العهد البائد بعدما رأينا من جرائم العهد الفاسد، لا وجه للمقارنة طبعا بين فترة الليبرالية والنهضة المصرية قبل يوليو بعهدي السادات ومبارك والتي وصل الفساد فيهما الي مرحلة يصعب تخيلها، في العهد البائد كان هناك العشرات من الباشوات الوطنيين الأحرار كل منهم يصلح لرئاسة الدولة وقيادة نهضتها، وكانت مصر في قمة مجدها ورونقها، وكانت القاهرة عاصمة أوروبية جميلة، وكانت الإسكندرية مدينة كوزموبلوتينية توصف وبحق بأنها عروس البحر المتوسط. منذ سنوات طويلة كتبت بأنه لا يمكن محاربة الفساد في عهد مبارك بدون سقوط النظام ذاته لأن النظام هو المحور الذي يدور حوله الفساد برمته، وهذا هو الفرق بين حالة الفساد في تونس ومصر، في تونس كان الفساد عائليا مع بعض الشلل الصغيرة المحاطة بالنظام والأسرة، في مصر مبارك أصبح الفساد مؤسسيا ولا أبالغ القول بأن دولة الفساد أصبحت دولة داخل الدولة، فالرئيس السابق وضع قاعدة إفساد كل من في منصب كبير عن طريق الإغداق علي رؤساء المصالح والهيئات والمؤسسات والوزارات حتي يضمن ولاء الرؤوس الكبيرة له ولعائلته ولحزبه ولنظامه ولاء كاملا، ولكي تتسترفي نفس الوقت علي أكبر عملية لنهب مصر تقوم بها عصابات الحكم أو بمعني أوضح مافيا الحكم المتحالف مع عدد كبير من رجال الأعمال المتوحشين. كنت تري صحفي هلفوت يحصل علي مليون جنيه في الشهر في حين أن زميله الأكثر كفاءة يحصل علي ألفي جنيه في الشهر.. ناهيك عما يحصل عليه بطرق أخري غير مشروعة وما يحدث مع هذا الصحفي يحدث مثله في كافة مؤسسات الدولة. لقد أصبح تاجر المخدرات فقيرا يندب حظه بالمقارنة برجال الأعمال المتاجرين بأراضي الدولة والمتهربين من دفع ضرائبها، ووصل الفساد الي درجة تصنيف مصر كأهم مركز عالمي لغسيل الأموال، ومحطة رئيسة لتجارة البشر والأعضاء البشرية حتي إن الأممالمتحدة طلبت من مصر رسميا سرعة إصدار قانون يجرم المتاجرة بالبشر، والسؤال: هل يمكن القضاء علي منظومة الفساد هذه وعودة مئات المليارات المنهوبة من قوت الشعب؟ في تقديري أن هذا صعب جدا جدا ولكنه ليس بمستحيل إذا توفرت الإرادة والرؤية لبناء مصر جديدة تناسب رؤية شباب التحرير، ولكن المشكلة أن كل ما حدث من خطوات في هذا الاتجاه محدودة جدا مما يجعلني أشك في حدوث مثل هذا التغيير الواسع، نفس الوجوه من الإعلام الي المؤسسات هي هي التي تدير كل شيء في البلد مع تغيير في اللغة وبوصلة النفاق، الذين كانوا يكيلون النفاق لمبارك وعائلته وحزبه ورجاله هم هم الذين ينهالون عليه طعنا ولعنة، وصبيان أجهزة الأمن ينتحلون دور ثوار ميدان التحرير، ووجوه صحفية قبيحة تحالفت مع أجهزة النظام ومارست الفساد من ليبيا الي العراق وباتت فجأة عنوانا للشرف ورمزا للطهارة تطارد الفاسدين وتتحدث باسم الثوار!! بل وصل الأمر بشاب قبط استقدمته أجهزة الأمن عام 2005 من واشنطن وفرضته علي رجل الأعمال (س. س) وظل لآخر لحظة ينفذ أوامر هذه الأجهزة الأمنية حتي إنه اجتمع معهم ومعه 6 شخصيات قبطية أخري يوم 6 فبراير بمقر وزارة الخارجية والثورة مشتعلة في ميدان التحرير، ومع هذا ذهب الشاب بعد ذلك الي ميدان التحرير مدعيا أنه من الثوار، وكان حريصا علي أن يلتقط الصور في الميدان بجانب المعارضة وبين الشباب ويوزعها علي الصحافة؟! إن التغيير لايعني الانتقام وتصفية الحسابات وفتح محاكم التفتيش ولكنه في نفس الوقت لا يعني التسامح مع هؤلاء الذين فلسفوا وساعدوا في مأسسه الفساد وتعاونوا مع أجهزة الأمن القمعية ضد الشعب، الحد الأدني من التغيير هو استبعاد هؤلاء من المشهد تماما وهنا يقفز السؤال: كيف يمكن إدارة البلد في حالة استبعاد كل هذا العدد من الناس وأن نجد بديلا لهم؟ أعتقد أنه إذا قدمنا للمحاكمة وبشكل عاجل أكثر ألف رجل أعمال فاسد، وأكثر ألف سياسي فاسد، وأكثر ألفي صحفي فاسد، وأكثر ألف مدير فاسد مع إرجاع ما نهبوه لخزينة الشعب فلن تخرب الدنيا باستبعاد أربعة آلاف شخص من شعب تعداده 87 مليون نسمة. الثورة لا تكون ثورة إلا بإحداث تغيير جذري في هيكل النظام وأركانه وفلسفته ورجال عهده وأجهزته الأمنية، وبدون ذلك نكون إزاء تلاعب بعقول المصريين واستخفاف بدماء شهداء الحرية. *مدير منتدي الشرق الأوسط للحريات