«البلد دي أحسن من غيرها».. مقولة ترددت لعقود طويلة علي ألسنة المصريين، مهما كانت الأحداث، كان الجميع يعتقد أن «البلد دي أحسن من غيرها»، وكانت فكرة السفر مقصورة علي فئة الشباب الذين يبحثون عن غد أفضل، لكن الآن تغير كل شىء، وأصبح «أي بلد أحسن من دي»، وسيطرت فكرة السفر والهجرة علي الجميع، رجالاً، نساء، شباباً، شيوخاً، وحتي الأطفال.. أصبح الكل يبحث عن فرصة للسفر أو الهجرة خوفًا من المستقبل الغامض في مصر، التقارير أكدت أن محاولات الإسلاميين المستميتة للسيطرة علي الحكم في مصر أدت إلي تفكير الكثيرين في الهرب من مصر المحروسة إلي أي دولة أخري سواء كانت عربية أو أجنبية، البعض أكد أنه قد يعود إذا تحسنت الأمور، وآخرون أكدوا أنهم مهاجرون ولن يعودوا إليها أبدا. طوابير طويلة أمام السفارات الأجنبية والعربية، اصطف أصحابها بحثًا عن فرصة سفر لأي من هذه الدول، تاركين وراءهم وطناً أصبح طاردا لكل أبنائه، حالمين بمستقبل أفضل في بلاد ليست بلادهم، كثيرون أصبح كل تفكيرهم هو الهرب من مصر ولو إلي الجحيم! في حين يفكر البعض في السفر عبر الطرق الشرعية من خلال السفارات وإن كانوا يحصلون علي «فيزا تجارية» ولأي دولة وهناك يبحثون عن فرصة عمل، نجد آلافاً آخرين يحاولون الهجرة عبر الطرق غير الشرعية، وكثيرون منهم يفقدون حياتهم غرقًا في البحر، أي أنهم يذهبون للموت أو للضياع في بلاد الغربة بدلا من بقائهم في وطن لا أحد يعلم ماذا سيكون مصيره، خاصة بعد أن ترشح أقطاب جماعة الإخوان المسلمين علي منصب رئيس الجمهورية، بعد سيطرتهم علي مجلسي الشعب والشوري، وإدارة المجلس العسكري الفاشلة للمرحلة الانتقالية، واستماتة السلفيين وتصاعد احتجاجاتهم بعد رفض أوراق مرشحهم حازم صلاح أبوإسماعيل. وإذا كانت الدراسات قد ذكرت من قبل أن المصريين يهاجرون نتيجة لعوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية أهمها- وفقا لما ذكرته دراسة لمركز الأهرام للدراسات- ارتفاع مستوي الفقر وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وتفشي ظاهرة البطالة، وتآكل الرقعة الزراعية مما أدي لهجرة الكثيرين من أبناء الريف إلي الدول العربية والأجنبية، وكذلك الغيرة من الشباب الذي سافر من قبل وتمكن من النجاح ثم عاد ليشيد قصورا فارهة في قراه، بالإضافة إلي اقتصار توزيع الأراضي المستصلحة علي أصحاب النفوذ، وفشل التعليم المهني في تخريج شباب مدرب علي العمل، وكانت هذه الظروف مجتمعة سببا في هروب ما يقرب من 460 ألف شاب إلي دول الاتحاد الأوروبي وحدها، منهم 90 ألف شاب مقيمون في إيطاليا. ولأول مرة في تاريخ مصر تدخل الأسباب السياسية ضمن الأسباب المؤدية للهجرة أو الهروب من مصر، حيث أكد تقرير لوكالة الأنباء الفرنسية أن هناك عددا كبيرا من أبناء الطبقة الغنية يفكرون في الهجرة من مصر، خوفا من أن يؤدي صعود الإخوان والسلفيين إلي سدة الحكم لتغيير نمط الحياة في مصر، واختفاء نوادي الطبقات الغنية وأسواق السلع الفاخرة، كما أن هناك مخاوف من فرض الحجاب، ورفض أي مظهر من مظاهر الثقافة الغربية. من ناحية أخري كشف تقرير لمؤسسة جالوب الأمريكية لاستطلاعات الرأي أن مواقع التواصل الاجتماعي شهدت تساؤلات بين عدد كبير من الشباب عن البلدان التي تمنح حق اللجوء السياسي بسبب التعرض للاضطهاد العرقي أو الديني أو السياسي، وأكد التقرير أن عدد المسيحيين الذين يفكرون في الهجرة ويسعون إليها في تزايد يومي بسبب الأحداث السياسية، وسيطرة التيارات الإسلامية علي الجمعية التأسيسية لوضع الدستور- قبل حكم المحكمة بحلها- ومحاولاتهم الوصول إلي منصب رئيس الجمهورية بعد أن وصلوا للبرلمان بغرفتيه، وأكد التقرير أن الأمر لا يقتصر علي الأقباط فقط، لكنه يصل أيضا إلي عدد غير قليل من الشباب الليبرالي واليساري وغير «المسيسين» الذين يشعرون بانعدام وجودهم وتأثيرهم علي الشارع المصري. جدير بالذكر أن التقرير ذكر جملة في غاية الخطورة وهي أن إسرائيل أصبحت من أهم الدول التي توفر للمصريين فرصا للهجرة والإقامة والعمل، خاصة بعد ثورة 25 يناير! جولة الوفد علي السفارات أكدت أن ما ورد في هذه التقارير ما هو إلا قليل من كثير يحمله المصريون، فهناك حالة من الرعب تسيطر علي الجميع، مسلمين وأقباطاً،الكل يبحث عن فرصة للهرب، فكلما سألنا شخصا لماذا تفكر في السفر؟ يرد بسؤال: ولماذا أبقي هنا؟! أمام السفارة الأمريكية بالقاهرة التقينا العشرات من المصريين أكدوا أنهم جاءوا بحثا عن فرصة سفر، أحدهم شاب يدعي أحمد عادل عمره 18 عاما جاء إلي السفارة ليسأل عن إجراءات الهجرة إلي أمريكا، بعد أن تأكد له أن مستقبل مصر الله وحده يعلم ماذا سيحدث فيه، وأضاف: «مصر بقت مش بتاعتنا، مصر بتاعة الإسلاميين اللي بيحاولوا يسيطروا عليها بأي شكل، علشان كده أنا عايز اهرب منها قبل أن تصبح مثل أفغانستان». أندرو مجدي طبيب علاج طبيعي عمره 23 عاما، قال: المستقبل في مصر غامض، القصة ليست فقط قصة أقباط ومسلمين، ولكن لا يوجد عمل ولا مستقبل مضمونًا، وأهم ميزة في مصر وهي الأمن أصبحت غير موجودة، لذلك فالخروج منها أفضل، ولكنه أضاف منذ أن كنت في الصف الخامس الابتدائي وأسرتي تبحث عن فرصة الهجرة لأمريكا من أجل المستقبل، واليوم أصبحنا أكثر إصرارا، لذلك حضرت اليوم مع أخي لنسأل عن الإجراءات،ولكني بعد الثورة غيرت رأيي في فكرة الهجرة نهائيا، فهذا البلد سيكون له مستقبل أفضل، ولكن ليس الآن، لذلك قررت السفر لعدة سنوات وبعدها سأعود وأستقر في مصر، بعدما تكون أحوالها «اتعدلت». داليا مجاهد طالبة بكلية السياحة والفنادق جلست علي الرصيف المواجه للقسم القنصل بالسفارة الأمريكية في انتظار دورها لتدخل إلي السفارة لتعرف مصير طلبها الذي تقدمت به مرارا للهجرة إلي أمريكا، قالت أنا بحب مصر جدا، ولكن الحب لا يضمن لنا مستقبلاً أفضل، فالمستقبل هنا غامض خاصة بعد ظهور الإسلاميين، لذلك فكرت في تحقيق حلم والدي بالهجرة إلي أمريكا والعمل هناك في أي مجال حتي لو اضطررت ل «غسل الصحون». فهناك عندي استعداد اشتغل أي حاجة علشان أكبر، لكن هنا مهما اشتغلت لن أكبر أبدا، كما أنني أتمني أن أضمن لأبنائي مستقبلاً أفضل، وهذا لن يحدث هنا، كما أن مستوي التعليم هنا سيئ للغاية، لذلك فالسفر أفضل بكثير. نموذج آخر لرجل في العقد الخامس من عمره يدعي عبداللطيف سيد يجلس علي نفس الرصيف، ينتظر ابنه الذي جاء ليقدم أوراقه للهجرة أكد لنا أن هذا البلد مفيش أحسن منه، لكن الابناء ليس لديهم خيار آخر، فالمستقبل غير مضمون، والظروف السياسية «ملخبطة»، لذلك فحينما فكر ابني في السفر لم أعارضه لعل مستقبله يكون أفضل مما عانيناه هنا، ومع ذلك فهذا البلد لا يمكن تعويضه أبدا! جدير بالذكر أن مصدرًا بأمن السفارة الأمريكية أكد أن هناك تزايدا من المصريين علي التردد للسفارة للسؤال عن إجراءات الهجرة، مؤكدا أنه ليست لديه أرقام دقيقة لأعداد هؤلاء، ولكنه لاحظ تزايد أعداد المترددين علي السفارة خلال الآونة الأخيرة لهذا الغرض. ومن ناحية أخري انتشرت علي موقع «الفيس بوك» صفحات عن المصريين الذين يطلبون الهجرة من مصر، منها مشاركة ذكر فيها «فيزا بيزنس روسيا مع وظائف بمرتب 1500 دولار شهريا + الأكل، لا يشترط اللغات، تكلفة الفيزا 1500 دولار تدفع بعد إنهاء إجراءات الفيزا بالسفارة الروسية، الوظائف الموجودة جرسون لكافيتريا أو مطعم وعمال مقاولات محارة ونقاش ومبلط وكهربائي بمرتب من 3000 إلي 4000 دولار، وتم تذيل المشاركة برقم محمول للاتصال عليه، ناهيك عن عشرات الصفحات التي تتحدث عن اللجوء السياسي وشروطه، والدول التي تقبله. ومن السفارة الأمريكية إلي السفارة الكندية التي شهدت في الفترة الأخيرة إقبالا شديدا للسؤال عن إجراءات الهجرة، مما دفع المسئولين بالسفارة إلي تعليق لافتة خارجها تحمل رقما تليفونيا وموقعا إلكترونيا لإفادة السائلين عن شروط الهجرة وإجراءاتها. ومن السفارات الأجنبية إلي السفارات العربية الأمر لا يختلف كثيرا، بل إن الطوابير أكثر طولا، الكل في انتظار فرصة الخروج من مصر، وأمام السفارة الكويتية بالقاهرة وقف مئات من المصريين معظمهم من الشباب، الكل يحلم بفرصة عمل، أحدهم يدعي فارس الفار صاحب شركة مقاولات كما هو مدون بجواز سفره، أكد أنه أصبح يحلم بالخروج من مصر، بدلا من «الغرق فيها» - علي حد تعبيره- وأضاف قائلا «لو وجدت خيرًا في بلدي ما كنت فكرت في السفر للخارج، ولكن الأحوال في مصر من سيئ لأسوأ، لذلك فكرت في السفر، واستخرجت «فيزا تجارية» حتي أذهب للكويت، وأتمني أن أجد فرصة عمل هناك حتي أظل بها، فالغربة أحسن من بلد لا أضمن فيه مستقبلي ولا مستقبل أبنائي. ويلتقط المهندس محمد أحمد أطراف الحديث، مشيرا إلي أنه قرر السفر بحثًا عن فرصة عمل، واستخرج تأشيرة زيارة لأحد أقاربه هناك، وعندما يصل سيبحث عن فرصة عمل، فالبقاء في مصر أصبح مخاطرة الآن، المستقبل غامض، لا أحد يعرف إذا كانت الانتخابات ستجري، والأوضاع ستستقر أم ستظل علي ما هي عليه، وإذا تم إجراؤها من هو الرئيس القادم؟! وكيف ستتعامل معه باقي القوي السياسية، وإذا جاء رئيس غير إسلامي، فهل سيقبله الإسلاميون أم لا؟ وهل ستقوم ثورة جديدة، كل هذه الأحوال جعلتنا نخشي علي حال البلد ومن ثم أصبحت فكرة السفر هي الفكرة الصحيحة الآن، فإذا كانت الأمور جيدة سأعود، وإذا لم تتحسن سأظل هناك. أحمد شلبي مهندس أكد أن الأوضاع السياسية غير المستقرة تعني أن الاقتصاد المصري سيظل علي هذه الحالة السيئة، لذلك قررت السفر لتكوين مستقبلي، ولكنني سأعود بمجرد أن تستقر أحوال البلد، ويبدأ الاقتصاد المصري في الانتعاش، فالغربة «وحشة» لكن المؤكد أن أحوال البلد ستتحسن إن شاء الله، وأكد أنه أيا كانت شخصية الرئيس القادم فمن المتوقع أن تتحسن أحوال البلد، لأن مصر بعد هذه الفترة من التأرجح ستعود إلي طبيعتها الوسطية ولن تتمكن أي قوة مهما كانت من السيطرة عليها. لؤي وائل مهندس حديث التخرج دفع 1200 دينار كويتي أي ما يعادل علي حوالي 25 ألف جنيه مصري ليحصل علي فيزا تجارية ليسافر إلي الكويت ليعمل بها قال: البلد حالها واقف، لا عمل، ولا استقرار سياسي، ولا أي شىء قبل الثورة كان عندي أمل أن الأحوال تتحسن، أما الآن فحتي الأمل أصبح صعبا، لذلك قررت السفر ودفع لي أحد أقاربي هذا المبلغ، وهناك سأعمل حتي أسدد هذا الدين، وأضمن مستقبلي، فأنا أعلم أنني قد أعاني هناك، ولكن هذه المعاناة سيكون لها ثمن، أما في بلدنا فلن أحصل علي شىء، وأكد أنه سيظل هناك إلي أن تتحسن الأحوال في مصر وبعدها قد يعود.