سيكون من العبث أن يدعي أحدنا أنه مُلم بكامل جوانب المشهد السياسي المصري، فالمشهد مُربك، مليء بالتناقضات الناتجة عن تصارع المصالح و تشابكها؛ فالمشهد يمكن وصفه – بلغة هواة الرياضيات - بأنه به الكثير من المجاهيل و القليل، بل و القليل جداً، من المُعادلات . فنحن لا نعلم حتى الأن، هل ما إذا كانت ثمة صفقة بين الجنرالات و جماعة الإخوان ؟ و هل سيحق للمرشح، الذي نظن أنه الأكثر شعبية، أن يترشح للرئاسة أم لا ؟ و هل دفع المجلس العسكري بعمر سليمان رئيساً ليصفي الثورة و الثوار نهائياً و إلى غير رجعة ؟ سأحاول في السطور القادمة أن أُوَصف ما يحدث حولنا مُنطلقاً من رؤية آمل أن تكون أقل إرتباكاً من المشهد الحالي؛ و لنبدأ من ما يظن الكثيرون أنه " سباق " للرئاسة، يعتقد الكثيرون أن المجلس العسكري قد ألقى بثقله وراء عمر سليمان ليكون هو مرشح الدولة الذي سَتُزًور له الإنتخابات و تُحشًد له الأصوات قصراً؛ و ترتب على هذا الإعتقاد حالة من الفزع من سيناريوهات القبض و السحل الواردة بعدما يتولي عمر سليمان سدة الحكم. و لكن، لنتوقف للحظة و نسأل أنفسنا، لماذا سيدعم المجلس العسكري عمر سليمان في الوقت الذي كان من الممكن أن يدعم فيه وجوهاً أكثر شعبيةً و قبولاً كعمرو موسى أو حتى أحمد شفيق ؟! و هل نظن أن العسكر لديهم هذا القدر الديناصوري من العته السياسي الذي يجعلهم يدعمون مُرشحاً سيكون فوزه بمثابة شرارة إشعال الثورة من جديد ؟ فلقد أجمع جميع المنتمين لكافة التيارات السياسية، و هؤلاء هم الكتلة الحية المؤثرة، على رفض عمر سليمان. قد يتوهم البعض أن للواء المشبوه شعبية لدى البسطاء، فهو عسكري و " هيعرف يمسك البلد ! " و لكن، مرة أخرى، ألا تتوافر تلك الشروط –العجيبة - في كلٍ من أحمد شفيق العسكري و عمرو موسى الخبير بدهاليز السياسة حسبما يظن الكثير من البسطاء. و لماذا يدعم العسكر وجه لم يكن له أي ظهور على ساحة المشهد المصري قبل 10 سنوات ؟! هل أقصد بذلك أنه لا علاقة بين المجلس العسكري و قرار ترشح عمر سليمان ؟ بالقطع لا، و لكني أرفض فرضية أن عمر سليمان هو مرشح المجلس العسكري، الدفع بعمر سليمان جاء في سياق " توقعوا السيناريو الاسوء "، فعمر سليمان رئيساً هو الكابوس الأحلك لأي ثائر، فلقد كان سليمان جزءاً أصيلاً من منظومة القتل و الفساد و الإستبداد لنظام الدكتاتور المخلوع. لذلك و بمجرد إعلان ترشحه، نسى الجميع الإخوان و مواقفهم المُخزية و بدأ الكثير ممن أسميهم " رابطة مُحبي الثورة عن بعد " يجدون في عمرو موسى بديلاً مقبولاً لكابوس عمر سليمان، و بدأنا نسمع جمل من نوعية " كله إلا عمر سليمان ! " و هذا بالضبط ما أقصده بأن عمر سليمان هو السيناريو الاسوء، مما قد يجعلنا نتقبل، بالتدريج، أي بديل أياً كان سواء كان هذا البديل هو عمرو موسى أو خيرت الشاطر. إذا إلى أي مآل ستسير الأمورفي الإنتخابات الرئاسية ؟ الإجابة بسيطة؛ الرئيس القادم سيكون من يتوافق عليه كلٌ من جماعة الإخوان المسلمين و المجلس العسكري؛ سيرد احدهم و يقول: "إزاي يعني في صفقة ؟! و في أزمة اللجنة التأسيسية و حرب البيانات و التصريحات النارية المتبادلة !" أنا أُدرج كل هذا الصخب تحت بند تقسيم الأدوار، فالذي بدأ أزمة اللجنة التأسيسية هم من يسمونهم بأنصار الدولة المدنية و ليس العسكر؛ و لماذا نتصور أن لدى المجلس العسكري أي مشكلة مع المنهجية التي شُكلت بها اللجنة التأسيسية ؟! ألم يكن الجنرالات هم أنفسهم من شكل لجنة التعديلات الدستورية، ذات الصبغة الإخوانية، و حثوا جموع أفراد الشعب، بطرق مباشرة و غير مباشرة، على الموافقة على التعديلات التي منحت أغلبية البرلمان حق تشكيل اللجنة التأسيسية لوضع الدستور على كيف كيفهم ! أنا هنا لا أتحدث عن مؤامرة كونية، بل أتحدث عن علاقة التحالف التي فرضتها الظروف الموضوعية على كل من العسكر و الإخوان؛ فهي علاقة حاجة و إحتياج، فالإخوان في إحتياج للإستناد إلي أهم أدوات الدولة القمعية، و هي الجيش، ليفرضوا سطوتهم المأمولة على البلاد؛ بينما تظل المؤسسة العسكرية في حاجة إلي الغطاء الشعبي لجماعة الإخوان الذي يضمن للعسكر تأمين نفوذهم السياسي-الإقتصادي في أوصال الدولة المصرية من أي تهديد، بالإضافة إلى ضمان الخروج الآمن لكبار الجنرالات. و لكن على من سيرسى التوافق ؟ حينما نتحدث عن توافق بين العسكر و الإخوان، يتبادر على الفور إلى ذهننا اسمان و هما: خيرت الشاطر و عمرو موسى. و لنبدأ من خيرت الشاطر، خيرت الشاطر يمثل كل ما هو توافقي، فهو وجه مقبول للغرب –تحديداً الولاياتالمتحدة- فللرجل قنواته المفتوحة مع الغرب من قبل الثورة و بعدها -و لنا في تصريحات جون ماكين العبرة و المثل. خيرت الشاطر رجل تجارة و ما أحب رجال التجارة على الرأسمالية المصرية فلا خوف على مصالحها المُتشعبة -المناقضة في الأساس لمصالح أغلبية الجماهير؛ و يعتبر الشاطر ثاني أكثر الوجوه قبولاً لدى جماهير التيارات السلفية بعد حازم أبو اسماعيل. كما لا يجب أن يغيب عن أذهاننا حقيقة أن خيرت الشاطر هو أهم رجل بجماعة الإخوان المسلمين و لم تكن تجرأ الجماعة على الدفع به إلا إذا كانت واثقة من تمتعه بفرصة كبيرة للظفر بإنتخابات الرئاسة. أما عن عمرو موسى، فهو مرشح كل من ليس لديه مشكلة مع فترة حكم مبارك في التسعينات، فلا يعتبره الكثيرون "فلول"، فالرجل ترك النظام قبل سقوطه بعشر سنوات، كما أنه كان دبلوماسياً و لم ينخرط في منظومة الفساد، إلى آخره من التبريرات التجميلية للسيرة الذاتية لمن شغل منصب وزير خارجية مبارك لعقد من الزمان. هذا بالإضافة إلى كونه وجه " مدني " مقبول جداً لعلية القوم من رواد " مارينا " و سكان " بالم هيلز " و هو الوجه الأكثر قبولاً لدى جموع المسيحيين بمصر؛ فلعمرو موسى فرصة مُعتبرة في أن يكون هو الرئيس التوافقي في إطار فبركة لمشهد إستبعاد أو إنسحاب خيرت الشاطر لسبب أو لاخر. سيصرخ في وجهي الكثيرون و يقولون: " انت إزاي مٌتجاهل مرشحين بحجم حازم صلاح أبو إسماعيل و عبد المنعم أبو الفتوح ؟! " صدقني يا صديقي، أنا لم أتجاهل هذا أو ذاك؛ كل ما في الأمر أني لدي قناعة بأن العسكر لن يسمحوا للشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل بخوض إنتخابات الرئاسة، فمسألة جنسية والدته لم تُحسم بالمرة –و من الواضح للجميع سوى" الحازمون " أن والدة أبو اسماعيل حاملة للجنسية الأمريكية، و المسألة ما هي إلا مسألة وقت حتى يتضح ذلك. فالشيخ حازم رئيس تصادمي أكثر منه توافقي، فالرجل من أكثر المرشحين إصطداماً بالمجلس العسكري، كما أن الرجل يطمح إلى تغيير شكل الدولة مما سيزعج قطاعات واسعة من الطبقة الأكثر سطوة بالمجتمع المصري، طبقة مجتمع المُنتجعات المُخملي، بالإضافة إلى إعتباره وجه غير مقبول للغرب؛ و نتيجة لكل ذلك وجب إستبعاد الشيخ حازم أبو إسماعيل –مع توضيح أنني أختلف مع السيد حازم أبو إسماعيل في الغالبية العُظمى مما يمثله من أفكار و لكن تلك قصة أخرى. أما عن الدكتور أبو الفتوح، فالرجل مشكلته في الأساس مع جماعة الإخوان، و لن يسمح له الإخوان بالظفر بمنصب الرئيس على الرغم من تأييد بعض القطاعات من شباب الإخوان له، كما أنه لا يُلبي النسبة المطلوبة من التشدد لتتقبله جموع جماهير التيارات السلفية. تبقى لنا في هذا السياق أن نسأل أنفسنا، هل سيأتي الرئيس التوافقي بتزوير الإرادة أم بتزوير البطاقات ؟ كلا الحالتين وارد، خاصة بعد أن رفضت لجنة الإنتخابات الرئاسية ، صاحبة الصلاحيات القيصرية، الرقابة الدولية. و في ظل المادة 28، تستمر منهجية " البلد بلدنا و الدفاتر دفاترنا " و يتحول " سباق " الرئاسة إلى فقرة من فقرات برنامج " البرنامج ؟ " لباسم يوسف. ******************* و الأن سأنتقل إلى ما أظن أنه سيحدث في المستقبل إذا استمر الوضع كما هو عليه؛ ما سيحدث هو ببساطة إنفجار ثوري مُختلف كمياً و نوعياً عن ما حدث بيناير 2011. فنحن عُدنا من جديد لنعيش نفس حالة الإنسداد المُركب السياسي-الإجتماعي الذي أوصلنا إلى ثورة يناير 2011؛ فالفقر شديد و البؤس أشد و السخط مُستشري، و حينما يجتمع الفقر مع البؤس مع السخط ، يحدث الإنفجار. إذا ما السبيل لتجاوز تلك اللحظة شديدة الدقة و الحرج ؟ السبيل الوحيد هو تجذير الثورة –أي جعلها أكثر جذرية- و لن يحدث هذا إلا إذا توقفت القوى الثورية عن الإنجراف وراء معارك سياسية تافهة في بعضها و مُفتعلة في مُعظمها؛ إستفتاء دستوري مُريب، إنتخابات تشريعية سخيفة، تأسيس لجنة وضع الدستور الصوري، إنتخابات رئاسية مطبوخة مُسبقاً؛ فتلك ليست معارك ثورية، حيث أن المعارك الثورية حقاً هي معارك النضال المُجتمي التي تلمس مصالح الطبقات الكادحة و المُفقَرة. ينبغي على القوى الثورية أن تعرض أفكارها على قطاعات واسعة من شباب الأحياء الفقيرة و العشوائيات -فهؤلاء هم من سيقودون الثورة القادمة. و من الضروري أن يكون واضحاً لنا جميعاً أن الثورة القادمة ستكون ثورة إجتماعية في الأساس؛ و حتى لا تتحول تلك الثورة إلى مُجرد حالة من التنفيس الدموي عن آبار الغضب الناتجة عن عقود من الظلم و القهر و الإضطهاد، يجب على القوى الثورية أن تحول دفة إهتمامتها و أن تصب عظيم جهدها على معارك النضال الطبقي الحقيقية التي إن انتصرنا بها، سنكون بذلك قد خطونا أولى الخُطى نحو تحقيق مجتمع العدل و الإنصاف.