كل من له علاقة بالقانون يعلم تماما بأن القاعدة القانونية يجب أن تصدر عامة ومجردة.. بمعنى ألا تستهدف أشخاصا بعينهم ولا وقائع محددة. وأيضا يعلم الجميع أنه لا جريمة إلا بنص قانونى ولا عقوبة إلا بحكم قضائى، وبعد محاكمة قانونية عادلة تتاح فيها للمتهم الفرصة كاملة للدفاع عن نفسه، مع التأكيد أنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون. تلك بديهيات أساسية تمثل العدالة والمشروعية القانونية.. كما جرى العمل بها فى قضاء واتفق عليها فقهاء القانون. فنحن نسعى إلى «دولة القانون» ويجب ألا تخالف تصرفاتنا القواعد الدستورية والقانونية المتعارف عليها، ومن ثم ففى رأيى أن استخدام التشريع فى إقصاء الخصوم السياسيين وإعدامهم معنويا بمنعهم من مباشرة أحد حقوقهم الأساسية وهو حق الانتخاب والترشح يعد تعسفا فى استعمال الحق.. فضلا عن أنه يمثل انحرافا لاستخدام الاختصاص. أقول ذلك بسبب التعديل التشريعى أو مشروع القانون الذى تقدم به البعض بعدم جواز الترشح لمنصب الرئاسة أو لنائب الرئيس أو لرئاسة الوزارة لمدة عشر سنوات، لكل من عمل فى أى وظيفة قيادية بالحكومة أو مؤسسة الرئاسة أو إحدى المؤسسات السيادية.. وكذلك من كان نائبا بالشعب أو الشورى عن الحزب الوطنى المنحل. وأنا لست مع إعادة إنتاج النظام السابق.. وإلا ما كان هناك ضرورة لقيام ثورة 25 يناير.. كما لا أقبل أن تذهب تضحيات الشباب المصرى الذى استشهد فيها هباء ودون جدوى، ولكن ضد أن تصدر القوانين لأفراد بعينهم أو بمناسبة وقائع محددة، وكنت أفضل اللجوء إلى الأدوات الديمقراطية المتعارف عليها وأهمها الاحتكام إلى صندوق الانتخاب.. وكما فعلنا من قبل فى انتخابات مجلسى الشعب والشورى.. حيث رفض الشعب إعادة انتخاب المنتمين للحزب الوطنى المنحل لعضوية البرلمان. مع ملاحظة أن القوانين تعاقب على الأفعال المؤثمة وليس على مجرد تولى مناصب قيادية أو مسئوليات إدارية وأن المنع من مباشرة بعض الحقوق الأساسية ومنها حق الانتخاب والترشح يصدر دائما بعقوبة تبعية لعقوبة أساسية فى جناية،وبعد محاكمة قانونية عادلة. وبمعنى آخر.. المنافسة السياسية يجب أن تتم من خلال العمل السياسى وليس باستخدام القانون بشكل قد يرى البعض أنه تعسفى وإساءة لاستخدام الحق، فإذا كان هناك مرشح للرئاسة يرى البعض أنه من أركان النظام السابق.. فلماذا لا تسعى القوى السياسية الأخرى المنافسة له لإسقاطه من خلال استخدام كوادرها ومؤيديها للتصويت لمنافسيه، فضلا عن العمل لإقناع مؤيديه بالانصراف عنه. ولكن استخدام القانون فى إقصاء الخصوم السياسيين هو إجراء لا يحظى بموافقة الجميع.. بل يرى فقهاء القانون أنه يمثل مخالفة دستورية.. ومن ثم معرض للبطلان من قبل المحكمة الدستورية إذا طعن عليه بعد إصداره. والأهم من ذلك- عمليا- أنه حتى لو صدر القانون عن مجلس الشعب.. فلابد من عرضه على رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة والقائم بأعمال رئيس الجمهورية للتوقيع عليه والأمر بنشره فى الجريدة الرسمية للعمل به فى اليوم التالى لنشره. ونحن هنا أمام احتمالين.. أولهما أن يوافق رئيس المجلس العسكرى على إصدار القانون ويأمر بنشره فى الجريدة الرسمية والعمل به فى اليوم التالى لنشره.. وهذه الإجراءات سوف تستغرق وقتا قد يمتد لعدة أسابيع تكون فيه لجنة الانتخابات الرئاسية قد انتهت من فحص أوراق المتقدمين للترشح للرئاسة، وأعلنت أسماء من استوفوا الشروط منهم.. وهؤلاء قد أصبحوا أصحاب «مراكز قانونية» اكتسبوها قبل العمل بالقانون الجديد ونطاق سريانه من حيث الزمان.. ومن ثم فمن البديهى ألا ينطبق عليهم، حيث لا تطبق القوانين بأثر رجعى. أما الاحتمال الثانى.. فهو ألا يوافق رئيس المجلس العسكرى على مشروع القانون ويعيده إلى مجلس الشعب مرة أخرى.. وهو ما يضطر معه- فى حالة الإصرار- على إعادة النظر فيه مرة أخرى وإصداره بأغلبية الثلثين، وتلك الإجراءات أيضا قد تستغرق وقتا لا يقل عن عدة أسابيع.. تحدث فيها نتائج على الأرض، كما حدث فى الاحتمال الأول.. أى يصطدم القانون بالمراكز القانونية التى اكتسبها المرشحون للرئاسة بإعلان لجنة الانتخابات الرئاسية لأسمائهم.. مع ملاحظة أن قراراتها نهائية ومحصنة ضد الطعن عليها قضائيا. هذا فضلا عن احتمالات حدوث «خصومة» بين البرلمان والمجلس العسكرى.. نحن فى غنى عنها فى الوقت الحالى، والأهم من ذلك أن استخدام القانون فى إقصاء الخصوم السياسيين قد يدفع آخرين لاستخدام ذات الوسيلة.. بمعنى إقامة دعاوى قضائية ضد الأحزاب الحالية التى أقيمت على أساس دينى.. وهو ما حذرته الدساتير المصرية السابقة وما منعه الإعلان الدستورى السارى والذى يحكمنا الآن. كما أننى أذكر الجميع بما كان يفعله الحزب الوطنى المنحل والذى استخدم التعديلات الدستورية (المادة 76 من الدستور المعطل) لتمرير عملية التوريث.. وكذلك استخدامه القضاء فى الحياة السياسية.. خاصة عندما كان يرفض الموافقة على تأسيس بعض الأحزاب التى كانت تضطر للجوء إلى القضاء لتحصل على حكم بقيامها. والمعنى أنه يجب أن نبتعد عن الممارسات السابقة للحزب الوطنى المنحل والتى قامت ثورة الشباب اعتراضا عليها.. كما يجب أن نبعد القضاء عن الانغماس فى العمل السياسى. إن الديمقراطية كفيلة دائما بتصحيح الأوضاع المعوجة أو المرفوضة.. وإذا كان الشعب قد نجح فى إبعاد الفلول عن البرلمان.. فيمكنه أيضا إبعاد من لا يحظى بثقته عن منصب الرئاسة.. ومن ثم لامناص من الثقة فى الشعب والاحتكام لاختياراته من خلال الصندوق الانتخابى. يرتبط بما تقدم أيضا.. موضوع تشكيل الجمعية التأسيسية لإعداد مشروع الدستور الجديد والتى قضت محكمة القضاء الإدارى- فى الشق المستعجل- بوقف قرار البرلمان بتشكيلها، حيث رأت المحكمة أن اختيار 50% من الأعضاء من البرلمان يعد مخالفة للإعلان الدستورى.. حيث لا يجوز لجمعية الانتخاب أن تختار نفسها. ومع أنه حكم أولى.. أى مازلنا بصدد الحكم فى الموضوع بعد أن تنتهى هيئة المفوضين بالمحكمة من إعداد تقريرها بالرأى.. إلا أنه من حسن الحظ أن المسئولين عن البرلمان واللجنة التأسيسية احتكموا للعقل واحترموا الحكم القضائى وأوقفوا اجتماعات اللجنة حتى يتبين وجه الصواب فى الموضوع.. حيث قد يصدر الحكم فى الموضوع مؤيدا للحكم المستعجل، ولكن هناك إمكانية الطعن أمام الإدارية العليا التى قد تؤيد الحكم أو تعدله أو تلغيه. والمعنى أننا أيضا تركنا للقضاء أن يحسم الخلافات السياسية.. وقد يكون صحيحا أن نص المادة (60) من الإعلان الدستورى والخاص بتشكيل اللجنة التأسيسية نص غامض ومبتسر وغير مفصل ويحتمل التأويلات المختلفة.. حيث لم يحدد معايير المرشحين لعضوية اللجنة.. وترك المسألة لتقدير الجهة المعنية فى التفسير.. وهو ما خالفته المحكمة وانتهت إلى تفسير مخالف لما انتهى إليه البرلمان.. وهو تفسير واجب الاحترام والتنفيذ لأنه صادر من القضاء وهو حكم بين الخصوم. ولكننا مرة أخرى كنا فى غنى عن ذلك لو احتكمنا للعقل وطبقنا مبدأ «التوافق» والمواءمة السياسية خاصة أننا لسنا بصدد مجرد قانون قابل للإلغاء أو التعديل فى أى وقت وبعد ما يسفر عنه التطبيق.. وأنما بصدد «دستور» جديد للبلاد قد يحكمنا لعشرات السنوات.. والدساتير- كما هو معروف- يجب أن تكون بمنأى عن التعديلات المتكررة أو المتوالية.. لأنها يجب أن تتميز بالثبات والاستقرار لمدة زمنية طويلة نسبيا مقارنة بالقوانين والتشريعات الصادرة عن البرلمان. والخلاصة أن الحياة مستمرة.. والأشخاص زائلون، ولكن الأوطان باقية.. والديمقراطية قد تحول الأغلبية إلى موقع المعارضة.. وقد تحول المعارضة إلى موقع الأغلبية.. ولا يجوز لكل منهما فى الحالتين استخدام التشريع لتحقيق مكاسب سياسية مؤقتة.. لأنه قد يشرب من نفس الكأس.. ولو بعد حين.. فلنتق الله فى تصرفاتنا.. ونراعى ظروف البلاد والعباد.. وأن نسارع فى الخروج من تلك المرحلة الانتقالية إلى الاستقرار السياسى والاقتصادى.