منتصر جابر فى مساء يوم حار وخانق بسبب الرطوبة المرتفعة، وكأن أحداً أفرغ الأكسجين من الجو، كنت ماراً أمام نادٍ اجتماعى بشارع الهرم.. نادٍ بسيط لطبقة، لا هى متوسطة، ولا شعبية، ورأيت حفل زفاف أو بمعنى أدق «فرح بلدى» يكاد أن يكون فى الشارع حيث لا يفصله عن الرصيف سوى سور تضاءل بفعل ارتفاع طبقات الأسفلت.. ويبدو أنه أقيم بالخطأ فى النادى، وكان يجب أن يكون على سطح منزل.. فكان هناك خليط عجيب من البشر نتاج «ترييف المدنية، وتمدين الريف» الذى تكون ببطء ممل فى القاهرة منذ بداية الثمانينيات.. فرح كله عيال وستات كأنهن خرجن من المطبخ إلى الفرح فى التو بعد أن انتهين من عمل المحشى.. والقليل من الرجال والكثير من زحام بلا معنى! وسط هذا الضجيج من الحشد تسرب إلى مسامعى صوت المطرب عبدالعزيز محمود وتصورت فى البداية أن الصوت القادم من وسط ضجيج الفرح هو مجرد صوت لمطرب أفراح يؤدى الأغنيات المعروفة حيث كان يغنى «يا نجف بنور»، ولكن بسبب شكوك راودتنى حاولت أن أتبين شكل المطرب من بعيد وسط الزحام الذى حوله فكانت المفاجأة أنه هو «عبدالعزيز محمود» فمن الصعب أن أخطئ فصوته، حتى ولو فيه بعض الشروخ بفعل الزمن، وكذلك من المستحيل ألا أعرف شكله حتى ولو تخفى تحت باروكة، ويومها حزنت جداً على ما آل إليه من وضع، أو ظروف اضطرته إلى الغناء فى هذا الفرح وسط العيال التى تهرج حوله أكثر مما تستمع، وأعتقد أن حاجته إلى ممارسة فعل الغناء والحنين إلى الوقوف أمام الجمهور، مهما كانت نوعيته أو مستواه كانت وراء موافقته على الغناء فى هذا الفرح وليست الظروف المادية فقط هى التى اضطرته إلى ذلك!! عبدالعزيز محمود كان أول مطرب وآخر مطرب من الصعيد الجوانى، لا يعتبر محمد منير، وآخرين، صعايدة بدقة، لأن ناس أسوان والنوبة ينتمون إلى الثقافة الأفريقية أكثر من ثقافة الصعيد، وكذلك المغنى الشعبى حكيم، من المنيا لا يعتبر أيضاً مطرباً عاطفياً، وهو أقرب إلى المنشدين والمداحين وهم بكثرة فى الصعيد ويستقرون في الصعيد ولا يعيشون فى القاهرة ويأتونها مثل كل الصعايدة لأيام، لإحياء ليال فى موالد الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة.. ولذلك يظل عبدالعزيز محمود (1914 - 1991) هو المطرب الصعيدى الوحيد الذى يشبه مطربى القاهرة، فهو من مواليد الحرزية، في سوهاج، اسمه عبدالعزيز محمود الخناجرى، وقد هرب من الصعيد لاحتراف الغناء، ويبدو أنه فشل فى البداية فى ذلك فعمل فى شركة «شل» فى بورسعيد، وعندما أصيب بكسر فى ساقه استغنت عنه الشركة، فاضطر إلى أن يعمل بمبوطياً، يبيع ويشترى من ركاب السفن المارة من قناة السويس، وكان معروفاً فى بورسعيد بخفة الدم والصوت الحلو، ولزيادة رزقه كان يغنى فى الأفراح والموالد، حتى سمع صوته الأستاذ مدحت عاصم، رئيس قسم الموسيقى والغناء فى الإذاعة، فاعتمده وقدم له أول لحن سنة 1937 لينطلق فى مسيرة فنية ما بين الغناء والتلحين والتمثيل، حيث قدم أغنياته الشهيرة والتى لحن معظمها مثل: "منديل الحلو، وتاكسى الغرام، ويامزوق الورد فى عوده، وشباك حبيبى، وكعبه محنى، ويا نجف بنور، ومكاحل مكاحل، وأيقونته الرمضانية «مرحب شهر الصوم» التى غناها عام 1966 لتنضم إلى أيقونات غنيات شهر رمضان المعروفة والشهيرة مثل: وحوى يا وحوى، ورمضان جانا، وحالو يا حالو، وهاتوا الفوانيس يا ولاد، وغيرها وأعتقد أن أغنية «مرحب شهر الصوم» قد خلدت عبدالعزيز محمود أكثر من أغنياته الأخرى التى تذاع بالصدفة فهى بمثابة النشيد الرسمى لإعلان قدوم شهر رمضان. والحقيقة أن عبدالعزيز محمود رغم صوته البديع فإن غناءه لا يختلف كثيراً عن هذا البشر الذى رأيته وسطهم فى نادى شارع الهرم، حيث كان من الصعب تعريفه كمطرب عاطفى أو مطرب شعبى.. فلا هو محمد عبدالوهاب ولا هو محمد طه.. ويمكن أن نقول إنه مطرب الفقراء. ورغم أن الظروف اضطرته فى أوائل الستينيات، إلى الغناء والتلحين فى الإعلانات برسوم الرائدين الأخوين المصور حسام والرسام على مهيب ومن خلال استوديو مهيب للرسوم المتحركة، إلا أنه ترك تراثاً غنائياً فى هذا المجال لم يسبقه إليه أحد فقد غنى أنا الميلامين جامد ومتين وإعلان «ماما وجبنة نستو» وسيجال وشهادات الاستثمار وبيرسول وطيران طيران ع البوسطة، ولذلك يمكن القول إن عبدالعزيز محمود موسوعة غنائية ورائد على مستوى الصعايدة وفى الغناء أيضاً ولذلك سيظل مغنياً مصرياً أصيلاً وابن بلد جدع، من المستحيل أن تسمعه دون أن تشعر بالسعادة والفرح فهو صاحب صوت مبهج ومبتهج.