تحقيق - حسام أبوالمكارم وعلى عبدالعزيز: تصوير: محمود سالم الموت يحاصرهم من كل ناحية، تارة من الجبل، وتارة بنقلهم إلى منفى يعيشون فيه فرادى، وأخرى بسقوط المنازل فوق رؤوسهم بسبب تغير الزمن، لا أحد يتذكرها إلا إذا سحقتهم الكوارث، ولا عرفها مسئول إلا بعد أن سالت دماء مواطنيها، ليصبح أبناؤها أجساداً حية وأرواحاً تقبض كل لحظة، تشتت أسرهم وتنقلب أحوالهم، فى حلم جديد سرعان ما يتبدد فى ظل غياب المرافق وانعدام الخدمات، لتجد أسراً بأكملها مهددة بالموت بين لحظة وأخرى. المشهد فى منشية ناصر يثير العديد من التساؤلات. عشرات من الأهالى يصطفون فى طابور، فى واجهة العقار المنهار بمنشأة ناصر شرق محافظة القاهرة، يتناولون بين بعضهم البعض الأحجار والأنقاض إلى الخارج، بحثًا عن ذويهم وجيرانهم الذين سقط عليهم العقار، يعملون بكل جهد وحماس وكأنهم سينتشلون أخًا عزيزًا عليهم من تحت الأنقاض، ويستمرون لساعات طويلة على هذا الحال إلى أن يظهر لهم كل مدة طويلة جثة يخرجونها بمساعدة الحماية المدينة والإسعاف، وتساعدهم اللوادر من الجهة الأخرى ناحية الشارع الرئيسى، فى رفع الأحجار الكبيرة داخل سيارات نقل تابعة للحى. «الأهالى نايمة فى الشوارع» بهذه الكلمات وصف عبدالله، أحد أهالى منطقة منشأة ناصر، الوضع فى هذا المكان بعد انهيار العقار، مؤكدًا أنه تم إخلاء منازل عدة مجاورة من السكان، خوفًا من سقوطها، وبالتالى أصبح العشرات من الأهالى ينامون فى الشوارع ولا يجدون مأوى لهم، إلا المساجد القريبة، حتى يتم البت فى أمرهم ونقلهم على أماكن أخرى أو عودتهم إلى منازلهم مرة ثانية. أوضح عبدالله، أن الأهالى أنزلوا ما يستطيعون من الاحتياجات الخاصة بهم، وقاموا بالانتظار فى الشوارع، وأغلب سكان المنطقة من البسطاء للغاية، ولا يمتلكون أماكن أخرى يذهبون إليها، مؤكدًا أن هناك أحد الأطفال تم انتشال جثته مؤخرًا، لم يكن من سكان العقار، ولكنه وقف فى أحد المحال الملاصقة للعقار ليشترى أشياء أثناء مروره. «لسه فى ناس تحت» محمد عادل، أحد الأهالى، أكد أنه يوجد فى وسط الأنقاض سيدة وطفلان ما زالوا أحياء، وشاهدهم الأهالى ولكنهم لا يستطيعون إنقاذهم لأن هناك أحد الجدران السليمة وقعت بزاوية معينة أغلقت سبل الوصول إليهم، مؤكدًا أن الأهالى يعملون بكل جهد لإنقاذهم، دون مساندة من الأجهزة والقطاعات الحكومية المسئولة عن ذلك، سوى اثنين فقط من رجال الحماية المدنية. أوضح أن الأهالى تعمل بنفسها فى إزالة الأنقاض بالطرق والأدوات البسيطة، خاصة أن الباب الرئيسى للعقار يصل إليه من الشارع الرئيسى عبر ممر ضيق للغاية، وأنه لا يمكن دخول أى أدوات من هذه الناحية، وأن الحى قام برفع الأنقاض من الخلف بعد استطاعته الدخول. والمشهد من بعيد يُظهر عقارات عدة يغلب عليها الوهن والركاكة، تشابه كثيراً بعضها البعض فى الألوان والارتفاع، ويتشابهون فيما بينهم أيضًا حتى فى البناء بشكل مستهتر وعشوائى، عندما تنظر لها من بعيد تشعر وكأنك إذا نفخت فيها لسارت كومة من التراب، أسقف خفيفة وبسيطة للغاية، لا تتحمل أبدًا أرواحًا من بنى آدم يعيشون حياة كاملة فوقها، وتهدد أرواحهم بالموت فى أى لحظة. وقال محمد جمال، إنه فى العشر سنوات الأخيرة، جاء عدد من الأشخاص يمتلكون أموالاً كثيرة، وأن هؤلاء هم سبب الخراب والانهيارات فى المنطقة، لأنهم يأتون ويقومون ببناء العقار بشكل غير مطابق للمواصفات أبدًا بأقل التكاليف، وعندما ينتهون من بنائه يبيعون كل شقة على حدة عن طريق التمليك، وعند الانتهاء من بيع جميع شقق العقار، يربحون أموالاً طائلة من وراءه، يختفون تمامًا ولا يرى أحد وجوههم مرة أخرى. أكد يوسف أن هؤلاء لا ينتمون إلى أهالى المنطقة، ولكنهم غرباء يمتلكون الأموال ويهتمون بالأموال أكثر من أرواح الأهالى، مؤكدًا أن الكارثة لا تكمن فى انهيار العقار فقط، ولكنها تمتد إلى جميع العقارات المجاورة وتتصدع أو يسقطون معًا فى ذات التوقيت. «كله خايف فى منشأة ناصر» مصطفى جودة، قال إن هذه الواقعة لم تكن الأولى فى منشأة ناصر، وأن المنطقة بأكملها تستقبل كل مدة زمنية كارثة جديدة تودى بحياة الأهالى، وبالتالى أصبحوا يشعرون بالرعب فى هذه المنطقة، ولكنهم لا يجدون الأموال حتى يتم الانتقال إلى منازل أو مناطق أخرى، مؤكدًا أنه من الضرورى أن ينظر المسئولون فى البنية التحتية وطريقة البناء فى المنطقة، فضلاً عن مراجعة كافة المنازل وإزالة العقارات المخالفة بشكل فورى فى ذات اللحظة دون الانتظار لحدوث كوارث أخرى. أردف «جودة» أنه من ضرورة المتابعة من قبل الحى والمسئولين لأن الأهالى وأصحاب العقارات والمقاولون لم يعد لديهم ضمير فى الوقت الحالى، ولا يخافون الله، أو حتى على أرواح غيرهم، وكل ما يخصهم هو المكسب المادى فقط، وبالتالى يجب على المسئولين متابعة أعمالهم بجدية دون التعويل على ضمائر الناس أو الانتظار لانهيار المزيد من العقارات. صخرة الدويقة.. كابوس للسكان ولا يعد العقار المنهار بمنطقة منشأة ناصر هو الحادث الأول فى المنطقة، حيث شهدت منطقة المنشية العديد من انهيار المنازل ومصرع العشرات نتيجة إنشاء العقار تحت جبل المقطم وسقوط الصخور فوق العقارات، ولا يمر عام على وقوع ضحايا جراء هذه الحوادث، حيث شهدت المنطقة يوم 6 سبتمبر عام 2008 انهيارات صخرية أعلى المنازل القابعة فى حضن الجبل بعزبة بخيت بالدويقة فى حى منشأة ناصر، وهو ما أدى إلى انهيار المنازل فوق رؤوس أصحابها الذين لم يتمكنوا من الفرار إلى الشوارع، ما أودى بحياة 115 قتيلًا وإصابة 55 آخرين. وأشارت التقديرات إلى أنه حوالى 500 جثة لمواطنين ما زالوا يرقدون تحت الأنقاض منذ سنوات ويصعب رفع الحجارة ودخول المعدات الثقيلة لانتشال الجثث؛ وذلك بسبب الطبيعة الجيولوجية الصخرية للأرض فى منطقة الدويقة المتكونة من حجر جيرى، والتى ستؤدى إلى انهيار البيوت الموجودة بشكل عشوائى على الأسطح الجانبية للجبل. وفى السابع عشر من يناير 2015، شعر أهالى منطقة الدويقة بهزة أرضية، عند حافة جبل المقطم، فى موضع الصخرة التى سقطت مطلع الشهر فى المنطقة دون أن تسفر عن أى إصابات، وقدر البعض وزن هذه الصخرة ب5 أطنان، وبعدها قام حى منشأة ناصر فى إخلاء نحو 65 أسرة، تقع فى محيط حارة أحمد عبدالحافظ، بخلاف إخلاء 75 أسرة أواخر ديسمبر من العام نفسه كانوا تحت تهديد صخرة أوشكت على السقوط. خبراء: 351 منطقة غير آمنة فى مصر.. وإعادة تخطيطها يحفظ أرواح المواطنين الدكتور محمد عبدالباقى، أستاذ التخطيط العمرانى بجامعة عين شمس، يرى أن فى المناطق العشوائية صعب التعامل مع حالات الحوادث بداخلها بسبب ضيق الشوارع وعدم التخطيط فى عمليات الإنشاء ما يهدد تلك المناطق بالانهيار وتكرار الكوارث بها. وأكد عبدالباقى أهمية إزالة المناطق المهددة فى منشأة ناصر لأنها أنشئت على تربة جيرية وصخور متصدعة قابلة للانهيار فى أى وقت ما ينذر بوقوع كارثة إنسانية، مشددًا على ضرورة إعادة تخطيط تلك المنطقة من جديد بالإنشاءات والمواصفات الصحيحة للبناء، نظرًا لارتباط الأهالى بفرص عمل والإنتاج داخلها ما يسهم فى الحصول على مصدر رزقهم. وطالب أستاذ التخطيط بضرورة المشاركة المجتمعية فى عمليات إعادة البناء لتلك المناطق حتى يتم الحد من الأرواح التى تزهق يوميًا ويتم تخفيف الأعباء من على الدولة فى تطوير المناطق العشوائية والمهددة، لافتًا إلى أن المنزل المنهار بمنشأة ناصر فى الساعات الماضية لا يقع فى المنطقة العشوائية أو الصخرية ما يدل على عدم وجود رقابة على أعمال البناء والإنشاءات لوضع مخطط عمرانى جيد يحد من وقوع الحوادث والكوارث وحصد أرواح المواطنين، ويمكن الدولة من بسط سيطرتها فى حالة الطوارئ. ولفت عبدالباقى بضرورة عمل خطة شاملة لعقارات منشأة ناصر، وإعادة تخطيط وإزالة المخالف لمعرفة إذا كانت تصلح للاستخدام أو عدمه، حتى يتم إعادة رسمها من جديد بشوارع واسعة تسمح بمد الخدمات إليها من كهرباء ومياه وصرف، فضلًا عن دخول المعدات إليها فى أوقات الأزمات. وأوضح خالد صديق، رئيس صندوق تطوير العشوائيات، أن المنزل المنهار فى منشأة ناصر والذى راح ضحيته عدد من المواطنين ليس ضمن المناطق غير الآمنة بالمنطقة كباقى المنازل والمنشآت المتواجدة على صخور وتحت الجبل، لافتًا إلى أن سبب انهيار العقار بعض الأعمال الإضافية على المنزل وقدم إنشائه منذ سنوات كبيرة. ولفت رئيس الصندوق إلى أن عدد المناطق العشوائية وغير الآمنة للعيش يصل إلى 60 منطقة على مستوى القاهرة، مضيفًا أن منشأة ناصر بها أماكن غير آمنة على المواطنين، وتم وضعها داخل خطة التطوير ولها أماكنها البديلة داخل خطة التسكين التى قامت محافظة القاهرة بمراجعتها لأهالى المناطق غير الآمنة والعشوائية فى مشروعات التطوير التى يتم تنفيذها من موازنة صندوق تطوير العشوائيات. وتابع «صديق» أن إجمالى عدد المناطق العشوائية وغير الآمنة فى مصر يصل إلى 351 منطقة، موضحًا أن الترميم ليس حلاً جذرياً لمشكلة العقارات والمنشآت المهددة بالانهيار فى مصر، وأن الصندوق لا يتبع سوى الحلول الجذرية ونقل السكان لأماكن حضارية طبقًا للخطة التى يسير عليها. وأضاف أن انهيار المنازل الفردية خارج المناطق العشوائية ليست ضمن أعمال صندوق تطوير العشوائيات، لافتًا إلى أن قانون البناء الجديد بنظم عمليات الإنشاء، قائلاً: «تنظيم وتطبيق القانون يقف على موظفى الأحياء، لا ألقى اللوم عليهم كاملًا ومنهم ناس ممتازة، ولكن عددهم قليل جدًا يتصدى لهذه المشاكل». وعن دور الدولة فى منظومة التخطيط فى مصر، قال الدكتور أيمن هاشم أستاذ التخطيط، إن منظومة التخطيط العمرانى فى مصر أثبتت فشلها الذريع فى وضع حلول جذرية لمشكلة المناطق العشوائية والمهددة، مثل منشاة ناصر والدويقة، مؤكدًا أن يجب أن يكون هناك حالة من التوازن فى إنشاء المدن الجديد التى تقوم الدولة بإنشائها والاهتمام بالمدن القديمة والكشف عن سلامتها للقضاء والحد من انهيار المنازل التى تحدث بشكل مستمر. وتابع قائلاً: «التخطيط فى مصر حبر على ورق، ولا يوجد اهتمام بالمناطق العشوائية ما يجعل عقار منشأة ناصر ليس نهاية المطاف فى مصرع المواطنين تحت الأنقاض».