عدت لوطني الحبيب مصر منذ أسبوعين تقريباً عازماً البقاء تحت سمائه وفي ظل ثراه، لا عليه، ما شاء الله تعالى لي من حياة، إلا أن يشاء الله تعالى أمراً، فكم قدرت وكم ضحكت الاقدار على حد قول شاعرنا الراحل، وإن طال زمن رحيله، أبي العلاء المعري، عليه رحمة الله تعالى: (وتقدرون وتضحك الأقدار)، وقد تخلفت عن الكتابة برغبتي على مدار ثلاثة عشر يوماً خوفاً من أن أخط ما يجافي الواقع ولو في أقل القليل، ولكن المشاهد التي رأيتها ما بين محاولاتي نفض متعلقات الغربة وأطروحاتها التي لم آنس إليها وهالني أن النفس قد اعتادتها برغمي، وما زيادة عن أربع سنوات من العمر بالقليل، فإذا أضفنا لذلك الشعور بلألم إثر جراحة بسيطة قرب مغادرتي أوان البعاد، وما بين جلسة تصحيح للأبصار بالليزر بالقاهرة، وأظن جلسة أقرب الألفاظ للحقيقة، (لا جرياً على عادة أصدقاء الغربة بعدم البوح بمواطن الالم لأحد خوفاً على الرزق، وكم تخلف الغربة فينا من مآس وإن قاومناها؟). ومن نافذة الطائرة استطلعت أرض بلادي من عل وذلك بعد رحلة مضنية مع مسئولات الوزن قبيل الطيران ومع مسئولي ختم الجواز بالمغادرة، وما بين الوزن الزائد للمرة الأولى خلال سفري، وما بين ألم عميلة ماضية تجرأ طبيب التخدير على بث مخدر نصفي بجسدي كانت المرة الأولى التي (أتعاطاه) ولم أقدر كنه ألمه، وما بين تأخر الطائرة بسببي بسبب تعنت السادة مسئولي الطيران في التعامل، ولن أقول مع من بالتحديد، ولعل لهذا قصة تحتاج لمقال منفصل، وبعد لأي ومتاعب اقتربت من أجواء بلادي، وفوجئت براكبة في المقعد الأمامي تحدثني، بعد مقدمة بسيطة، عن مصر على إنها ليست أجمل ولا أفضل بلاد الأرض، فلما ذكرتها بدم قرابة ألفي شهيد خلال العام الماضي أو منذ يناير الماضي فقط لكي تجئ لمصر (هي ) اليوم فتقول هذه الكلمات، ولما قلت لها عن حب الأوطان وكيف علمنا إياه الرسول، صلى الله عليه وسلم، وكانت محجبة، أجابت في تقليدية شديدة: انتظر حتى ترى ما سيفعلونه بنا في المطار وبعدها قرر ما تصف به مصر! (1) عجب العجاب حينما تأملت المشهد للوهلة الأولى عرفت سبب (محكمة الثورة) التي عقدها (الضباط الأحرار) عقب ثورة 23 يوليو 1952م بشهور، وقد ورثت مضابطها عن أبي، رحمه الله تعالى، وقد كان إماماً لأحد أحبر مساجد بلدتي الجنوبية بني مزار، مسجد عمر بن الخطاب، وخريجاً لأصول الدين دفعة عام 1964م، وممن أنضووا تحت لواء الاتحاد الاشتراكي، حتى حين، ولأبي حديث آخر مهم إن كان في العمر بقية، وقد اصطحبت محاضر الجلسات معي للديار البعيدة لأقلب فيها مستغرباً من سرعة الجلسات لمحاكمة أفراد النظام الملكي (البائد) حينئذ مثلما صار نظام مبارك بائداً اليوم، وتلاحق مواعيد الجلسات، وحدة الأحكام وتوثيقها بالصور التي تظهر المحكوم عليهم في مظهر حسن يتنافى مع جسامة الأحكام المفروضة عليهم، بل تذكرت اللون الأسود غير المتناسق يعلو صورة الملك فاروق في أفلام الأبيض والأسود حينما كانت تعلو أحد الموظفين بخاصة أعضاء النيابة. إن كانت هذه أفعال متطرفة لكي يحسن هؤلاء الضباط، المسمين بالأحرار أمتطاء ظهر جواد الوطن فإن ترك السايب في السايب اليوم تجاه فلول، ولي اعتراض جم على هذا اللفظ، فهؤلاء ليسوا إلا مجرمين لا أتباع لنظام سابق يتباكون عليه، وفي اللفظ بعض العذر لهم، فإن ترك (الشمطلي يطلي) برأي آبائنا في إشارة للفوضى وعدم الحزم أو الإيمان بمجئ الثورة العظيمة والتفرغ لنهشها قبل أن تستوي على سوقها أو تبلغ بعض أهدافها ليعد تطرفاً أشد وأخطر، وما ترك مصر يرتع فيها البوم والغربان، وتنهق على ربوعها الحيات والعقارب بالشئ القليل، ولكي لا تعد كلماتي من سقط القول، وليس من سمع كمن عاين، ومن لدغ كمن نافق، إنني سأسهب ما عاينت بعد سطور قليلة. (2) لماذا يحسب كثيرون من قوى الثورة والداعمين لها بل المصفقين لها والمستفيدين منها أن الامر قد انتهى؟ بل لماذا تأخذ النشوة بمجامع (بعض الإسلاميين) فيظنون أنهم قد انتصروا بعد طول انتظار، وأسفل العمارة التي أنا مقيم بها مسجد للسلفيين ولن أصف شعور بعضهم بالفخر وهو المعارض للثورة بالأمس أو خلال إجازتي الماضية على الأقل؟ ومع المحبة لجميع القوى الوطنية بما فيها الإسلاميين، ومع عدم رغبتي في السير في زمرة قافلة المادحين اليوم لهم، المنقلبين على مبارك منذ ساعات البائعين لمن يمدحونهم بعد قليل، إلا إنه للحق فإن محبتي لا تمنعني من قول الحقيقة: غضب مبارك من الراحل مصطفى أمين، غفر الله تعالى له، لما قال حين مجئ الدكتور علي لطفي لرئاسة الوزارة: لا تفرح فإنما وضعوك على خازوق، ومع كون مبارك نفسه لم يعتد الالتزام اللفظي، ولذلك ولهيكل أو الأستاذ كما اعتاد البعض حديث قريب، ومع تسليمي ببذاءة لفظ مبارك في غير هذا الخطاب، وبإنها كلمة حق أريد بها باطل من تسقط القول للراحل مصطفى امين، ومع عدم محبتي لتكرار مثل هذا اللفظ غير المحبب لنفسي إلا إنني أريد القول بوضوح للأحباب من الإسلاميين: لا تفرحوا بحق جلال الله ثم الوطن الغالي فقد أوشكوا أن يضعوكم، إن لم يكونوا وضعوكم على الخا... هل أنتم محتاجون لأن أقول لكم إن البلد كله يغلي من أقصاه إلى أقصاه؟ أنتم تعلمون حجم معاناة الفقراء والمحتاجين والمعوزين فلماذا تتأخرون عن مواصلة المضي الثوري حتى منتاهاه؟ وبتبسيط شديد جداً من يجيب على الأسئلة التالية أو ما خبرته من أسئلة؟
(3) مرافق الدولة الحيوية وعلى رأسها المطارات لأنها عنوانها أين أنتم من طوفان الرشاوى والفساد والمحسوبيات وتسهيل مهام عدد غير قليل من القادمين من السفر لأجل المجاملة أو المال وعلى نحو غير مسبوق لا قبل الثورة ولا عقبها وقد رأيت الحالين بوضوح تام، ورأيت ما أذهلني بمطار القاهرة الدولي الصالة القديمة يوم الاثنين قبل الماضي من حجافل الموظفين والعمال الذين ينتظرون أشخاصاً لا يعرفونهم وينادون بأسمائههم جهاراً نهاراً لأن لهم ظهراً لا يجعلهم يقفون حتى في طابور ختم الجواز بالوصول فيما ينتظر الشيوخ الكبار والأطفال والمرضى والأصحاء القادمين من عناء السفر قبل أن أقول السياح لأنه من المفترض أن مصر صارت لمخلصيها لا لهؤلاء وهولاء؟ في المطار حينا يتخلف طيران الخليج عن تسليم حقائب المسافرين للعشرات من المصريين مع سابق إجبار بعضهم على دفع غرامات الوزن الزائد قبل السفر، فيما هو يقوم بتسفير الامتعة التي تلقى عليها آلاف الجنيهات في يوم تال ليوم السفر فإن لدي سؤالاً غير بسيط هل يستطيع فعل هذا في إحدى دول الخليج؟ والحقائب بعد تحرير المحاضر والتعهد بإيصالها للبيوت هل يقبل السادة أعضاء مجلس الشعب، وهذا من صميم مهامهم ولا يقولن لي أحد أنه يخص طائفة دون أخرى، فإن كان هذا يحدث في المطار فماذا يحدث في وزارة الري والكهرباء وغيرهما بعد الثورة، وفي المباني الحكومية في أقصى البلاد بل في مطار أسيوط؟ والحقائب حينما تصل مفتشة بالكامل منزوعة الأقفال للبيوت في فرض للأمر الواقع والبذاءة وفيها ما يخص الحرمات والنساء، وقد كان بحقيبتي المتأخرتين أوراق ودواء مزق أغلبه للأسف لظن السادة بالجمارك أن بداخل الدواء مخدر قاتل. ثم ما جدوى وجود الجمارك لاستفزاز الوافدين ومساومتهم على ضرائب مثل القوانين التي يحكم المجلس التشريعي اليوم بها وبعضها يعود للخمسينيات من القرن الماضي، وقد كنت ضحية عملية نصب منظمة باسم وشعار الدولة من السادة بجمارك المطار من أجل جهاز كهربائي متخلف عدوه قمة التقدم فأدفعوني نصف ثمنه ليدخل البلاد، ولما رأوا ممانعة قارب أحدهم إساءة اللفظ لولا أن ثرت عليه وهو في سن والدي، ولكنه أراد الاستئثار بالجهاز لنفسه؟ (4) يا سادة ( من جميع الأطياف والقوى السياسية وفي مقدمتها الإسلاميين) مصر تنتظر الكثير منكم بل العالم وفي مقدمته سوريا اليوم فلماذا أرى عزمكم (يقارب) الخبو ومسيرة الثورة بداخلكم تكاد تفقد نصفها؟ ألا ترحمون أنفسكم من عذاب الله تعالى عن المسئولية التي تحملتموها قبل أن ترحموا الناس من أهل بلادي في الدنيا. وللحديث بقية إن أذن الله تعالى.