من شأن ضعف استجابة المجتمع المصري بفعالياته المختلفة لدعوة العصيان المدني، أن تشكّل درساً لأصحاب الدعوة ولتجارب أخرى مشابهة في الوقت ذاته. هذا الضعف، حتى لا نقول الفشل، يلقي الضوء على حقيقة يجب عدم إغفالها في الحالة العربية الراهنة وهي غياب الحالة القيادية الموحدة والبرامجية التي تتواءم مع النفس الثوري والتغييري الذي تموج به الشعوب وفي مقدمتها الشعب المصري الذي يدرك تماماً أن أهداف الثورة لم تتحقق بعد. وللإنصاف لا يجب النظر لفشل دعوة العصيان باعتباره رفضاً لأهداف شباب الثورة أو مناهضة لهم، بل لأسباب أخرى لها علاقة بهذا الشكل النضالي المشروع والتاريخي الذي لا يأتي كقرارٍ عفوي مرتجل وسريع، بل في سياق عملية نضالية تراكمية تستقطب حولها أغلبية الشعب التي يجب أن تقتنع بأن مصير الثورة سيكون مهدداً بالتبديد مالم تأخذ بزمام المبادرة وتدافع عن مصيرها عبر أساليب مفهومة من حيث شكلها ومضمونها، ومن حيث واقعيتها ودوافعها وجدواها . من دون شك كانت الدعوة لهذه الخطوة أشبه بالمغامرة التي لم تأخذ بالاعتبار موازين القوى والإنضاج التراكمي للفكرة قبل تحويلها إلى أسلوب نضالي يحتل ذروة التراكمات النضالية الكمية الكفيلة بإحداث التغيير النوعي لمصلحة الشعب وثورته . وبالنظر لدعوة العصيان المدني في مصر، من الواضح أن القوى التي بلورتها لم تأخذ بالاعتبار الشروط الموضوعية والذاتية، حتى إنها لم تختبر المزاج الشعبي باختبارات واقعية من نوع الإضراب الجزئي مثلاً لتهيئة الشعب لمسار تصاعدي يكرّس علاقة بين الفكرة والتجربة على قاعدة ملموسية الجدوى . ولا يصح النظر للأساليب النضالية بإطلاقية، فما يصح بعد سنة سيكون خطأ إذا اتبعناه اليوم، وما يفشل اليوم لا يعني أنه خطأ، بل له ظروفه الذاتية والموضوعية وموازين القوى الضرورية . القوى الثورية في مصر بحاجة إلى توحيد صفوفها وبلورة أفكارها المشتتة في بوتقة برنامج فكري وسياسي موحد يمثل الطيف الأوسع من الطبقات المعنية بحمل التغيير الثوري إلى نهاياته وعدم إجهاضه وركنه عند أبواب الانتهازيين السياسيين الذين يسعون دائماً لقطف الثمار من دون المساهمة في رش البذار . وفي كل المسار الثوري ينبغي التحلي بالنضج السياسي والنضالي لأن العملية الثورية تكون أصعب عندما تكون داخلية، خلافاً للتعامل مع حالات الاحتلال والاستعمار أو العدوان الخارجي حيث لا يكون استقطاب الشعب بحاجة إلى جهد كبير . لقد ظن البعض أن الحراك الشعبي المصري الذي نجح بلا قيادة معروفة وواضحة وبلا برنامج شامل، ربما كان تجربة بديلة لعصر الأحزاب والأيديولوجيات، لكن أمام ما يشبه الإجماع على أن نجاح الحراك شيء وانتصار الثورة شيء آخر، فإن كثيرين يعيدون النظر في هذا الاستنتاج المتسرّع، سيما أن تجارب الثورات الملوّنة في أوروبا الشرقية قدّم الأمثلة المتلاحقة على شرطية وجود القيادة والبرنامج بالنسبة إلى الثورات . كما أن النضوج اللازم لقيادة الشعب نحو مصالحه يحتاج إلى الوقت الكافي لكي يتحقق، ولكي تتجنّب الشعوب والثورات أيضاً خسائر التجريبية وتمتلك القدرة على التمييز بين القوى الحقيقية والمخلصة لأهداف الشعب، وتلك التي تتعلق على الشجرة بانتظار القفز على ظهر الحصان . التجارب الفاشلة تكتسي الأهمية ذاتها للتجارب الناجحة، ذلك أن التجارب بشقيها قاطرة التغيير والارتقاء . وككل مرة يجب تذكّر أن مصر تسير على الطريق الصحيح رغم التعرّجات والتحديات، ورغم التباطؤ هنا والفشل هناك، وقد يمر بعض الوقت حتى ينقشع الضباب وتتضح الرؤية، وإذا أصرّ البعض على مسمى “الربيع”، فإن الخريف أحد الفصول أيضاً وفيه تتساقط الأوراق الذابلة من على الشجر . نقلا عن صحيفة الخليج الاماراتية