لم يعد سراً أن الثورة الشعبية التى تجتاح العالم العربى وتقوده نحو الحكم الشعبى الديمقراطى قد أصابت إسرائيل برعب حقيقى تعبر عنه دون تحفظ، فقد كان تفجر الثورات الشعبية التى تنادى بالديمقراطية وأخذ الشعوب العربية بزمام أمورها فى أيديها هو أكثر الكوابيس التى ترعب إسرائيل وتشعرها بأن العد التنازلى لزوالها كدولة قد بدأ، فسقوط حكومات الطغاة الذين كانوا عملاء للاستعمار الغربى الذى أنشأ إسرائيل كنقطة ارتكاز له فى المنطقة يحرم إسرائيل من ركائز وجودها، وقد أعلن الإسرائيليون دون تردد أن الرئيس المخلوع فى مصر كان كنزاً استراتيجياً لإسرائيل وأن سقوطه كارثة لها، ويتعثر العديد من مفكرى وكتاب إسرائيل فى تحليلاتهم للزلزال السياسى الذى ضرب المنطقة وتأثيره المدمر عليها، وتختلف التحليلات والتفسيرات، ولكن الإجماع هو أن ما يحدث نذير شؤم حقيقى على إسرائيل. وبين أيدينا تحليل مطول للكاتب الإسرائيلى إسرائيل شامير يظهر مدى الرعب الداخلى الذى يعيشه الإسرائيليون من جراء الثورات العربية، وقد نشر شامير تحليله فى 24/9/2011 على موقع جروب انفورميشن. يقول شامير إن الربيع العربى كما يسمونه انتهى إلى صيف عربى حار، ففى مصر استمرت الحكومة العسكرية على نفس سياسات مبارك، وفى ليبيا تنتشر العصابات المسلحة فى صحرائها تحت حماية طائرات حلف الناتو، وفى سوريا تنفجر المغامرات التى يقف وراءها عميل مخابرات أمريكى سابق، وكانت النتيجة نسيان القضية الفلسطينية التى تسرع أحد المحافظين الجدد فأعلن فى سعادة أن الربيع العربى قد جعل القضية الفلسطينية غير مهمة. ولكن جاء الخريف وكانت أولى ثمار الثورة التى زرعت فى الربيع هى اقتحام السفارة الإسرائيلية الواقعة على نيل القاهرة، وتذكرت تركيا الإهانة التى وجهتها لها إسرائيل العام الماضى، بمهاجمة القافلة التركية التى كانت متجهة إلى غزة وقتل عدد من رجالها، كما هدد السعوديون أمريكا لأول مرة فى تاريخهم، وعادت قضية فلسطين إلى مركز الصدارة ثانية، وأصبحت مطالب محمود عباس من الأممالمتحدة بالاعتراف بدولة فلسطينية هى بؤرة الضوء فى الصورة العربية، والآن نستطيع تقييم الحقائق ونبدأ أخيراً فى فهم ما يحدث فى الشرق الأوسط، فهل ما يحدث هو مسيرة حقيقية نحو التحرر والديمقراطية؟ هل هو الثورة رتبها البعض بمؤامرة محبوكة؟ وإلى أين يقودنا كل ذلك؟ من الواضح أن منطقتنا تسير فى طريق إعادة التشكيل، وفى نهاية هذا الطريق القصير نرى أن الخلافة الإسلامية التى نسيناها طويلاً ستقوم من جديد كما سنشرح.. نبدأ بشرح لماذا يطالب الفلسطينيون باعتراف الأممالمتحدة بدولة لهم. لقد تعب الفلسطينيون من مفاوضات لا تنتهى مع الإسرائيليين، فقد أخذوا وعداً باستقلال سريع سنة 1993، فاتفاق أوسلو بين عرفات ورابين كان مفروضاً أن يحل كل المشكلة سريعاً بعد فترة حكم ذاتى فلسطينى قصيرة، ولكن الاتفاق لم ينفذ فقد قتل عرفات بالسم وقتل رابين بالرصاص، ونتيجة لذلك فقد لعبت الحكومات الإسرائيلية على كسب الوقت واستمرت فى ذبح الفلسطينيين الذين نفد صبرهم، واستمرت المفاوضات رغم ذلك طويلاً، ولكن الفلسطينيين فى النهاية تعبوا من المفاوضات وفقدوا الثقة فيها منذ وقت طويل، وفى أول انتخابات فلسطينية حرة سنة 2006 صوت الفلسطينيون ضد حركة فتح التى كانت هى حزب التفاوض الفلسطينى، والآن بعد خمس سنوات تعب محمود عباس وحزبه بدورهم من المفاوضات التى كانت مضيعة لوقتهم، وخافوا أن يفقدوا كل نفوذ وسط الفلسطينيين، لقد فقد عباس الكثير من ماء وجهه، وكان خصومه يعتبرونه عميلاً إسرائيلياً تحميه رماح إسرائيل، وقالوا إنه لا يحمل تفويضاً من الشعب الفلسطينى لحكمه، ولذا يقلق عباس جداً من أن الانتفاضة التالية ستطيح به كما أطيح بمبارك، وأن الإسرائيليين فى هذه الحالة لن ينقذوه، وبذلك لا يبقى له إلا أن يصبح ورقة محروقة فى التشكيل الكبير الذى يجرى لإعادة صياغة المنطقة، ولذلك اضطر عباس إلى عقد صلح مع حماس والتقدم للأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية، وفى الوقت نفسه قامت حكومته بشراء معدات بوليسية لفض التظاهرات، فقد يضطر مستقبلاً لاستخدام هذه المعدات لقمع معارضيه!! وما لم يكن عباس ورجال فتح ينوون قضاء سنوات المعاش فى زراعة حدائقهم!! فإن عليهم إظهار بعض الإنجازات لشعبهم، ولكن الوقت يعمل ضدهم فى ضوء إعادة تشكيل المنطقة، فمنظمة فتح تنتمى لتيار القومية العربية الاشتراكية التى كان يمثلها حزب البعث وعبدالناصر، وهو تيار يحتضر حالياً، فى العراق تم تدمير هذا التيار على يد الغزو الأمريكى، وفى مصر تم تذويبه على يد مبارك خلال سنوات حكمه، وفى ليبيا نسفته غارات حلف الناتو، وفى سوريا يتعرض هذا التيار لضربات قاسية، فقد قدم هؤلاء الاشتراكيون العرب تنازلات ضخمة للتيارات الليبرالية، وشجعوا قيام المليارديرات العرب فاحشى الثراء، وحصلوا على رشاوى لا تحصى، وفقدوا تأييد شعوبهم إلى حد كبير جداً، وبذلك فقدوا سبب بقائهم، وأصبح مصيرهم مثل مصير النقابات العمالية فى أمريكا والأحزاب الاشتراكية الديمقراطية فى أوروبا، وكان جمودهم السياسى فى فترة ما بعد الثورات سبباً فى عدم قدرتهم على التأقلم. إن محمود عباس يعلم جيداً كما يعلم الجميع أن قراراً من الأممالمتحدة لن يعطيه دولة لها مقومات الدولة ولكن سيكون له أثر سياسى مزعج لإسرائيل إنه رجل شديد الارتباط بالأمريكيين، وحرسه الخاص تم تدريبه بمعرفة مدربين أمريكيين ولذلك كان يأمل أن تقبل أمريكا مساعدته فى طلبه من الأممالمتحدة الاعتراف بدولة فلسطين، وكان محمود عباس معذوراً كل العذر فى تعليق أمله على مساندة أمريكا له فى ضوء حديث أوباما سنة 2009 فى جامعة القاهرة الذى وعد فيه بمساندة قيام دولة فلسطينية، وكان أوباما نفسه يأمل فى الواقع أن يفى بوعده للفلسطينيين، ،ولكن اليهود فى أمريكا على درجة من القوة والتعصب فى تأييدهم لإسرائيل لدرجة لا تسمح لأوباما بالوفاء بوعده للفلسطينيين، فهم يفضلون نتنياهو بكل جموده السياسى الغبى، وقد قبلت الطبقة السياسية فى أمريكا هذا الوضع كحقيقة لا رجعة فيها، وقد قام أعضاء الكونجرس الأمريكى بمجلسيه باستقبال نتنياهو والاستماع لحديثه لهم بحفاوة منقطعة النظير فى تاريخ الكونجرس، كانت درجة الحفاوة بنتنياهو شيئاً لا يطمع عتاة الطغاة مثل ستالين أو القذافى أن يلقوه من رعاياهم، وكانت خسارة حزب أوباما الديمقراطى بمقعد واينر فى الكونجرس شيئاً غير متوقع جعل أوباما يخشى تماماً أن يتكاتف اليهود ويعملوا على عدم إعادة انتخابه لرئاسة أمريكا فى نوفمبر سنة 2012، ولذلك اضطرت إدارة أوباما أن تعد اللوبى اليهودى باستعمال حق الفيتو فى الأممالمتحدة ضد أى مشروع قرار لإقامة دولة فلسطينية. إن ما فعله أوباما كان قراراً اضطر له، ولكنه لم يكن قراراً حكيماً، فإن العمل من أجل السلام فى الشرق الأوسط كان يجب أن تكون له الأولوية فى السياسة الأمريكية، فهذه الكارثة المسماة حق الفتيو الأمريكى فى السياسة الخارجية ستكون ذات أثر مدمر لأمريكا، فظهور أمريكا بمظهر التابع العاجز أمام السياسة الإسرائيلية يحرم أمريكا تماماً من إمكانية حكم الشرق الأوسط. ونقف عند هذه الفقرة من تحليل شامير لنعرض فى الحلقة التالية باقى التحليل الذى يقدم فيه شامير من الذى سيحكم الشرق الأوسط من وجهة نظره وأسانيده فى ذلك، ونرى فى هذا العرض المقدم أعلاه مدى قلق بعض الإسرائيليين ذوى الفكر المتعمق من ظهور سيطرة اليهود على القرار السياسى الأمريكى بهذا الشكل الفج المهين لأمريكا فقد يصحو الرأى العام الأمريكى قريباً على نوبة عداء عارم للسامية كما حدث فى الماضى، فى دول كثيرة نتيجة السياسات اليهودية وفى ضوء التمرد الاجتماعى الجارى حالياً فى أمريكا نتيجة البطالة والفجوة الهائلة بين الفقراء والأغنياء، والذى تمثله حركات احتلال وول ستريت التى بدأت تنتشر فى المئات من مدن أمريكا وأوروبا، فى ضوء كل ذلك لا نستبعد انفجار موجة عداء للسامية على نطاق واسع فى هذه الدول. -------- نائب رئيس حزب الوفد