لا أذكر منذ متى تقريباً لم أشاهد فيلماً مصرياً يحمل هذا القدر من المتعة رغم بساطته الشديدة! فليس ضرورياً أن تحمل الأفلام المهمة قضايا ملحة أو مُعقدة، فالفن هو البساطة والجمال ومحاولة إيقاظ المشاعر النبيلة داخل المتفرج، تلك المشاعر التى ربما يكون قد نسيها وسط زحمة الحياة وتعقيداتها! فيلم «جدو حبيبى» لا يشبه أياً من الأفلام المصرية التى نتابعها هذه السنوات ومشكلته الوحيدة تكمن فى عنوانه، الذى ربما يفتقد القدرة على الجذب أو إثارة الفضول! بالإضافة لأن أبطاله ليس بينهم نجم شباك، ولابلكونة، ومع ذلك فقد استمتعت بالفيلم بدرجة أدهشتنى أنا شخصيا، وكنت قد أصطحبت معى ابن شقيقتى وهو من جيل الشباب السيس الذى لا يمكن أن يدفع مليما ليشاهد فيلما مصريا، فهو يفضل الاجنبى مثل النسبة الأكبر من أبناء جيله، بالإضافة لكونه خريج معهد سينما، ممن يحبون الفذلكة والتعالى على كل ما تقدمه أفلامنا ولكنه جاء معى الفيلم مضطرا، مغصوبا، ومقهورا، ومع ذلك خرج منه سعيدا وممتناً للغاية! اعتاد الجمهور المصرى أن يسألك قبل ان يشاهد أى فيلم «هو بيقول إيه»؟ يقصد قصة الفيلم، أو حكايته أو قضيته، فنحن نعانى وللأسف من ضعف الثقافة الفنية، وهى ليست تهمة، لأنها حكاية مرتبطة بنظرة المجتمع كله للفنون، ولغياب النقد الموضوعى الذى يساعد المتفرج فى التعرف على مواطن الجمال فى أى عمل فنى يشاهده أو يتابعه، لأننا ببساطة مازلنا نعتقد أن الفيلم هو الحدوتة، وليس كيفية سرد تلك الحدوتة، ولو تأملت الأفلام العشرة المرشحة للأوسكار هذا العام، ستكتشف أن 7 منها على الأقل تعتمد على حكايات غاية فى البساطة! ولكنه سحر فن السينما الذى يعتمد على التفاصيل، وعلى جماليات الصورة، وماتقدمه للمشاهد من متعة. -زينب عزيز هى كاتبة القصة والسيناريو والحوار لفيلم «جدو حبيبى» ومع زوجها المخرج على إدريس قدمت عددا من الأفلام المرحة البسيطة، حققت قدرا من النجاح، وأعتقد أنها مع هذا الفيلم تصل الى مرحلة أكثر حرفية، وأعتقد أنها كتبت الفيلم وقد وضعت نصب عينيها إمكانيات «بشرى»، فشخصية «فكرية» أو «فيكى» تحتاج ممثلة تتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتتمتع بخفة دم، وقدرة على التلون فى الأداء، بالاضافة لقدرتها على الغناء، ولو أنها لم تقدم سوى أغنية واحدة، من تأليف أيمن بهجت قمر، تشبه فى معناها أغنية «بكره وبعده» التى أداها عبد الحليم حافظ فى فيلم «فتى أحلامى»، تلك التى كان يحلم فيها بالثراء بعد موت عمه البخيل، الذى يضن عليه بالمساعدة، أما فكرية أو «فيكى» وهو الاسم الذى تفضل أن يُطلق عليها، فقد عاشت معظم سنوات عمرها فى مدينة لندن، تعمل سمسارة فى البورصة، وتعيش مع صديقة إنجليزية، تشاركها السكن والعمل، ويحدث أن تتعرض «فيكى» الى أزمة فى العمل، تجعلها تعانى هى وصديقتها من مشاكل مادية تكاد تصل بهما الى حد الافلاس، غير أن الفرج يلوح عندما تتلقى، استدعاء من أحد المستشفيات فى القاهرة، يؤكد أن جدها «محمود يس»، على مشارف الموت! وعليها أن تلحقه قبل أن ينتقل الى رحمة الله! وتحزم الفتاة أمتعتها وتستعد للسفر الى القاهرة التى تركتها وهى لا تزال طفلة، ويداعبها حلم الثراء، فهى الوريثة الوحيدة لجدها الثرى، الذى لا تعرف عنه الكثير، وعندما تصل اليه، يخبرها الطبيب أن الرجل أمامه ساعات قليلة ويرحل عن الدنيا، فتقرر على مضض أن تتحملها حتى تصل الى ما تريد، ولكن الأمور تأخذ منحى آخر، وتجد فيكى نفسها متورطة تماما فى الحياة مع جدها، رغم اختلاف طباعهما ومنطق كل منهما ونظرته للحياة ليس بسبب اختلاف الجيل الذى ينتمى إليه كل منهما، ولكن بسبب اختلاف الثقافة والبيئة الاجتماعية، ومع ذلك فقد سارت الحياة بينهما بشكل ما، رغم كثرة التصادم، الفتاة تعتبر وجودها فى القاهرة مؤقت، والجد يحاول أن يستبقيها فهى كل ما تبقى من عائلته! - الجزء الأول من الفيلم «فرشة» أو مقدمة للجزء الثانى أو الفصل الثانى، ولكنها مقدمه وإن طالت فقد كانت ضرورية لإيقاظ مشاعر الود بين الفتاة البرجماتية وجدها» اللطيف»، ويحتمل هذا الجزء أن يكون فيلما منفصلا، حيث يعود الجد الى ذكريات قصة حب قديمة، لم يكتب لها النجاح، مع فتاة كان يحبها فى صباه، وقد أعتقد أنها قد توفت فذهب الى عزائها مع حفيدته وهو مكسور الفؤاد، محطم، ولكن الفتاه تكتشف انه عزاء لسيدة أخرى تحمل نفس الاسم «ليلى» بل تقرر أن تهب جدها العجوز بعض السعادة، فتبحث عن عنوان حبيبته القديمة، وتخبره أنها تعيش مع ابنائها واحفادها فى الفيوم، وتنتقل الأحداث الى هناك، حيث تستقبل «ليلى» لبنى عبد العزيز حبيبها القديم وسط مجموعة ضخمة من الأبناء والأحفاد، وتسترجع معه ذكريات الماضى، وتطلب منه أن يحضر حفل زفاف حفيدها «أحمد فهمى»، ولكن شرارة الحب تنطلق بين حفيدة «محمود يس»، وحفيد لبنى عبد العزيز الذى لم يجد فى الفتاة التى كان يستعد للزواج منها، ما يحفزه على الاستمرار فى الاجراءات! خاصة عندما تخبره جدته بأن الحياة قد تستمر بين الزوجين دون الحب، ولكن الحب بالتأكيد يجعل الحياة أكثر جمالاً! - استغل المخرج «على إدريس» تفاصيل البيئة ليقدم مشاهد غاية فى الروعة على بحيرة قارون، بعين كاميرا أحمد عبد العزيز التى خلقت صورة بديعة سمحت بتقديم مشاهد رومانسية ناعمة، بين «بشرى» و«أحمد فهمى» من ناحية، ومحمود يس ولبنى عبد العزيز من ناحية أخرى! كما استغل وجوده فى مدينة «لندن» لتقديم مشاهد تعبر عن طبيعة المدينة التى فرضت برودتها على حياة «فيكى» ومشاعرها وشخصيتها فى الجزء الأول من أحداث الفيلم! يكاد يكون أحمد فهمى أحد اعضاء الفريق الغنائى «واما» أفضل من جمع بين الغناء والتمثيل، فهو صاحب قوام جميل، بالاضافة لانه يتمتع بخفة دم وتلقائية فى الأداء، والأهم من كل ذلك فهو بعيد عن غرور المطربين الذين يشترطون أن تكون لهم مساحات عريضة فى الأفلام أو المسلسلات التى يشاركون فى بطولتها، وفى تجربته الثانية أمام النجم محمود يس بعد مسلسل «ماما فى القسم» يبدو أكثر ألفة ونجاحا، لبنى عبد العزيز مازالت تحتفظ بلياقتها وفى مشاهدها القليلة التى ظهرت فيها، ملأت الشاشة دفئاً وحناناً، وذكرتنى بشكل ما بدور صوفيا لورين القصير المؤثر فى فيلم «تسعة» رغم اختلاف طبيعته عن «جدو حبيبى»، بشرى ممثلة لم تعلن عن كل مواهبها، وهى تكسب أرضاً جديدة مع كل عمل تشارك فيه، وقد ساعدها الإنتاج المتميز للفيلم أن تقدم بعضاً من مواهبها فى مجال الغناء والأداء الكوميدى الخفيف، الممتزج بلحظات من الشجن، وبعد تجربتها فى فيلم «678» الذى قدمته فى العام الماضى ثم تجربتها فى «جدو حبيبى» يمكن أن نعتبرها قد أعادت اكتشاف نفسها. محمود يس النجم المخضرم، يسير عكس عقارب الساعة، فبعض زملاء جيله قبعوا فى الصفوف الثانية، أو توقف عطاؤهم بعد أن عجزوا عن إدراك أن للزمن أحكامه، ولكنه بدأ رحلة جديدة ومختلفة وهو يشبه فى ذلك دوده القفز، التى تغير تكوينها وتخرج من الشرنقة، بعد أن غزلت خيوطاً من حرير، لتصبح فراشة جميلة الألوان لاعلاقة لها بهيأتها الأولى! محمود يس الذى لم يكف لحظة عن ترديد مقولة إن السينما بتاعة الشباب فقط، وآن لنا أن نتركها لغيرنا، فإذا به يشارك أحمد السقا، فى بطولة فيلم «الجزيرة» ليصبح أجمل مفاجآت الفيلم، ثم يقدم أداء عبقرياً فى فيلم «الوعد» يجمع بين الكوميديا والتراجيديا، ثم يُفاجئنا بدوره الأخاذ فى مسلسل «ماما فى القسم» وبعده «جدو حبيبى» ليعيد، للأذهان ما حدث مع الفنان الخالد «يوسف وهبى» الذى عاش يقدم أدواراً كلاسيكية فى شبابه، كانت مُرشحة للنسيان، قبل أن يُفاجئنا بإنه يحمل موهبة كوميدية نادرة فى أفلام «ميرامار» و«إشاعه حب»، ومذكرات زوج وغيرها، فمنح نفسه فرصة أن يظل نجماً لآخر يوم فى حياته، منح الله نجمنا الكبير محمود يس طول العمر والصحة ليمتعنا بعطائه ليؤكد أن موهبة الفنان الحقيقى لا تصدأ ولا تتآكل، ولكنها تصبح مثل قطرات العطر التى يزداد جمالها وسحر تأثيرها، كُلما مر عليها الزمن!