أقصى أنواع الخوف هو الخوف الاجتماعى الذى يسيطر على الشعب المصرى الآن، فعلى الرغم من أن المصريين نجحوا قبل عام فى تحطيم «فزاعة» الدولة البوليسية إلا أن العيد الأول لثورة 25 يناير اكتسى بطعم الخوف عند جميع المصريين على اختلاف شرائحهم.. الاقتصاديون يرتعدون ليل نهار من انهيارات وتقلبات البورصة، والثوار والمثقفون والفنانون اكثر انزعاجاً من انفراد التيار الدينى بترتيبات مرحلة ما بعد الثورة، والحرفيون قلقون على قوت يومهم، والسياسيون ممزقون بين الحريات الداخلية والمخاوف من الاطماع الاقليمية والدولية، وجميع المصريين انتابهم هلع شديد فى الأيام الاخيرة على سلامة الجيش فى ضوء التحرشات الداخلية والخارجية بمكانته وأيضاً «لقمة العيش» فى ظل تكرار المشكلات التموينية، وفوق كل ذلك هناك الخوف الاجتماعى العام من تآكل أهداف الثورة وعدم اكتمال مسيرتها. وأمراض الخوف غير الطبيعى عند المختصين هى نوع خاص من أمراض نوبات الهلع والذعر الشديد ويعرف مرض الخوف غير الطبيعى أو الفوبيا على أنه خوف كامن مزمن من شىء أو مكان أو سلوك معين يؤدى لقيام المريض بمحاولات واضحة للهروب من موقف، لمواجهة الشىء أو الظرف الذى يعتبره المريض خطراً على حياته. وليس هناك فى الوسط الطبى النفسى تحديد واضح لأسباب المرض الاجتماعى، فبعض الأطباء النفسيين يعطى فرضية كون المرض نابعاً من داخل الفرد أى مشاعر خوف داخلية من ممارسات طارئة خارج الاطار المشروع، ومشاعر الخوف الداخلية هذه يتم نقلها وتحويلها إلى أشياء خارجة تصبح مصدر الخطر للمريض والمجتمع وبالتالى فإن رؤية هذه الأشياء الخارجية تؤدى إلى إثارة مشاعر الخوف والذعر الداخلية الكامنة فى الإنسان. وهناك فرضيات أخرى مثل فرضية الصدمة والأذى، وحسب هذه الفرضية فإن تعرض المريض لخبر أو حادثة مؤلمة وقاسية مع مصدر الهلع والخوف يؤدى إلى مشاعر خوف دفينة يتم خزنها فى ذاكرة الفرد ومشاعره وبالتالى رؤية الشىء أو المكان الذى سبب الأخبار الأليمة والقاسية يثير مشاعر الخوف الدفينة هذه. أى أن «الإرهاب» أو الخوف الاجتماعى السلبى أو الزائد قد يكون هو العامل الرئيسى فى إجهاض ثورات الربيع العربى ومن بينها الثورة المصرية، ولعل هذا هو الذى دعا د. سالى خليفة إسحاق الى إطلاق تحذير تاريخى من خلال اجراء دراسة مقارنة بين رياح ثورات الربيع العربى والنهايات التى آلت اليها «سلاسل الثورات» فى الخبرة الدولية فهناك السلسلة الأولى المتمثلة فى ثورات الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، التى بدأت بثورة يوليو فى فرنسا، ثم انتقلت إلى بلجيكا فى أغسطس، واجتاحت بولندا فى نوفمبر، ثم إلى عدد من الدول الإيطالية الراغبة فى التحرر من نفوذ الامبراطورية النمساوية، وتتسم سلسلة ثورات 1830 عموما بالفشل باستثناء حالة بلجيكا. والسلسلة الثانية هى سلسلة ثورات 1848 فى القارة الأوروبية، وكانت أوسع سلاسل الثورات نطاقا وأفشلها فى النتائج وبدأت هذه السلسلة بالثورة الفرنسية، ثم اجتاحت القارة الأوروبية موجة ثورات، أهمها تلك التى اندلعت فى الدويلات الإيطالية، ثم الدويلات الألمانية، وبعدها ثورة المجر على الإمبراطورية النمساوية، وانتفاضة الأيرلنديين على بريطانيا العظمى. والسلسلة الأخيرة هى سلسلة ثورات 1989 الناجحة، والتى اجتاحت أوروبا الشرقية للإطاحة بأنظمة الحكم الشيوعية التى سيطرت على هذه الدول طوال فترة الحرب الباردة. إلى جانب هذه السلاسل الكبرى، يتم التعرض من حين إلى آخر لعدد من سلاسل الثورات الأصغر نطاقا، كحالة سلسلة ثورات 1820 فى أوروبا، وكحالة سلسلة ثورات 1875 فى البلقان فى إطار الدولة العثمانية. وتلمست الدراسة خيوط الامل فى التجارب الدولية بالتنويه الى ان أغلب سلاسل الثورات التى حكم عليها التاريخ الدولى بالفشل وقت وقوعها، تم وصفها فى فترات لاحقة بمثابة الحلقة الضرورية من حلقات متعددة أسهمت جميعها فى إحداث التغيير المرغوب ولو بعد حين. لهذا يمكن القول إنه على الرغم من فشل سلاسل ثورات العشرينيات والثلاثينيات وأواخر الأربعينيات فى القرن التاسع عشر فى تحقيق أهدافها ومطالبها التحررية والقومية والديمقراطية، فإن الوحدة الإيطالية التى تحققت فى 1861، والوحدة الألمانية التى تحققت فى 1871 تعدان إلى حد كبير نتاجا غير مباشر لما سبقهما من سلاسل ثورات طرحت المطالب القومية للأمتين الإيطالية والألمانية. كذلك، فإن الحكومات الدستورية التى سادت فى أغلب الدول الأوروبية مع نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر كانت النتيجة البعيدة لسلاسل الثورات والانتفاضات الشعبية التى سبقتها بعقود طويلة، بل كانت أيضا نتاجا بعيدا لما أنتجته الثورة الفرنسية فى أواخر القرن الثامن عشر من تأسيس الجمهورية الفرنسية الأولى، وما طرحته من أفكار تحررية وقومية وديمقراطية تمثلت فى إعلان حقوق الإنسان والمواطن. من هنا وحتى لا تهزمنا فوبيا الخوف الاجتماعى، التى تملكت صغيرنا قبل كبيرنا، والتى لم تعد تفرق بين الثائر والانتهازى والحائر، مطلوب من برلمان الثورة المبادرة بإعداد مشروع وطنى مصرى عاجل تشارك فيه مختلف القوى والتيارات السياسية والجامعات ومنظمات المجتمع المدنى لتحويل الطاقة الانهزامية فى فوبيا الخوف الى طاقة اجتماعية منتجة وبناءة تؤسس على اهداف ومبادئ ثورة 25 يناير، وكفانا تجارب وخنوعاً لسياسة النفس الطويل التى قد تحولنا جميعا الى ضحايا لهذه السياسة اللعينة.