الرئيس السيسي ينيب وزير الدفاع للمشاركة في إحياء ذكرى رحيل جمال عبدالناصر    وزير قطاع الأعمال العام يتفقد شركة النصر لصناعة المواسير الصلب    عاجل - وزير الخارجية يعقد لقاء ثنائيا مع نظيره الألباني على هامش فعاليات "الأمم المتحدة" (تفاصيل)    خطاب نصرالله الأخير.. رسائل حادة وتهديدات واضحة    قبل الديربي.. أنشيلوتي يكشف كيف سيلعب ريال مدريد في غياب مبابي أمام أتلتيكو    ذكرى رحيل رضا ساحر الإسماعيلى فى حادث مروع اليوم    «المصري توك».. سحر مؤمن زكريا وزوجته في مقابر عائلة مجدي عبدالغني.. ما القصة؟    تعويضات من «العمل» لضحيتي «سقالة مول التجمع»    الطقس غدًا .. ساعات حذرة ومتقلبة والعظمى على القاهرة تسجل 33°    الحكم على سعد الصغير بتهمة سب طليقته 26 أكتوبر المقبل    محافظ الإسماعيلية يستقبل رئيسي تليفزيون وإذاعة القناة    مهرجان أيام القاهرة للمونودراما يكرم نيللي ومنير العرقي في حفل الختام    أيمن زيدان يعتذر عن تكريم الإسكندرية السينمائي.. بسبب الحرب    نبيل الحلفاوي بعد إخفاق الأهلي: لابد من شد الفريق وضبط وربط صواميله المفككة    محاضرات في الطب النفسي وعلاج الإدمان ضمن "100 يوم صحة" بالشرقية    الجريدة الرسمية تنشر قرارًا جديدًا لرئيس الوزراء (التفاصيل)    رئيس أساقفة الكنيسة الأسقفية: الدعوة يجب أن تكون في صدارة أولوياتنا    بتحية العلم والنشيد الوطني.. رئيس جامعة القاهرة يشهد انطلاق العام الدراسي الجديد    نائب محافظ شمال سيناء يتفقد نادي الهجن الرياضي    ضبط 15 ألف قضية سرقة تيار كهربائى خلال 24 ساعة    «وكيل صحة الشرقية» يطمئن على الحالات المصابة ب«النزلات المعوية»    محافظ جنوب سيناء يشكر "مدبولى": يقود باقتدار أهم مراحل بناء مصر الحديثة    البورصة المصرية تربح 56.9 مليار جنيه في أسبوع    «البناء والأخشاب» تنظم ندوة عن مشروع قانون العمل    الرئيس السيسي يدعو مجلس الشيوخ للانعقاد الأربعاء المقبل    الحزب الاجتماعي الصومالي: «التغييرات الدولية عملت على انتشار شعبية الأحزاب اليمينة وانحسار اليسارية»    توقعات مواليد برج الميزان.. اعرف حظك وأبشر بانفراجة    «الإفتاء»: المشاركة في ترويج الشائعات حرامٌ شرعًا    السجن عامين لخادمة بتهمة سرقة شقة بالساحل    جذب الاستثمارات الأجنبية والعربية على رأس اهتمامات مبادرة «ابدأ»    رئيس الوزراء يوجه بضغط البرنامج الزمنى لتنفيذ مشروع "التجلي الأعظم" بسانت كاترين    رئيس الوزراء يزور منطقة وادي الدير بمدينة سانت كاترين    لاوتارو مارتينيز يقود هجوم إنتر ميلان أمام أودينيزي    الحوار الوطني يواصل تلقي المقترحات والتصورات بشأن قضية الدعم    «الفريق يحتاج ضبط وربط».. رسالة نارية من نبيل الحلفاوي لإدارة الأهلي بعد خسارة السوبر الأفريقي    تشكيل لوبي دولي من 120 منظمة عالمية للاعتراف بإقامة الدولة الفلسطينية    الإسكان تكشف الاستعدادات فصل الشتاء بالمدن الجديدة    رئيس هيئة الدواء يكشف سر طوابير المواطنين أمام صيدليات الإسعاف    مرض السكري: أسبابه، أنواعه، وعلاجه    في اليوم العالمي للمُسنِّين.. الإفتاء: الإسلام وضعهم في مكانة خاصة وحثَّ على رعايتهم    علي جمعة: سيدنا النبي هو أسوتنا إلى الله وينبغي على المؤمن أن يقوم تجاهه بثلاثة أشياء    بعد واقعة النزلات المعوية.. شيخ الأزهر يوجه ب 10 شاحنات محملة بمياه الشرب النقية لأهل أسوان    ضبط 97 مخالفة تموينية و295 ألف لتر مواد بترولية مهربة بقنا    الضرائب: إتاحة 62 إتفاقية تجنب إزدواج ضريبى على الموقع الإلكتروني    إسرائيل تستبعد مقتل القيادي بحزب الله هاشم صفي الدين    وكيل صحة البحيرة يزور مركز طب الأسرة بالنجاح| صور    جيش الاحتلال الإسرائيلي يعترض صاروخا بالستيا جديدا أُطلق من لبنان    صحة غزة: 52 شهيدا و118 إصابة جراء عدوان الاحتلال آخر 48 ساعة    «الزراعة»: مصر لديها إمكانيات طبية وبشرية للقضاء على مرض السعار    تحرير 1341 مخالفات للممتنعين عن تركيب الملصق الإلكتروني    وزير الخارجية والهجرة يلتقي مع وزيرة خارجية جمهورية الكونغو الديموقراطية    وزير الخارجية يترأس المنتدى العالمى لمُكافحة الإرهاب مع جوزيب بوريل    سعر الفراخ اليوم السبت 28 سبتمبر 2024.. قيمة الكيلو بعد آخر تحديث ل بورصة الدواجن؟    أمين الفتوى: حصن نفسك بهذا الأمر ولا تذهب إلى السحرة    مواقف مؤثرة بين إسماعيل فرغلي وزوجته الراحلة.. أبكته على الهواء    فتوح أحمد: الزمالك استحق اللقب.. والروح القتالية سبب الفوز    أول رد فعل من حزب الله بعد استهداف مقر القيادة المركزية للحزب    كلاكيت عاشر مرة.. ركلات الترجيح تحسم بطل السوبر الأفريقي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لا تكسروا مئذنة الأزهر
نشر في الوفد يوم 23 - 04 - 2017

ليس مجرد «قلعة للسنة».. إنه ملتقى التسامح بين المذاهب والأديان كافة
أنقذ الأمة فى المفاصل التاريخية الصعبة.. وقاد الكفاح للتحرر من الاستعمار
شعوب الأرض تعرف «القاهرة» من خلاله.. وشيوخه تميزوا بالاعتدال والوسطية
الأزهريون أول من نادوا بالتنوير والنهضة العربية منذ القرن الثامن عشر
من أعلامه.. عمر مكرم قائد المقاومة ومحمد عبده رائد تجديد الخطاب الدينى
فرنسا أدركت أن احتلال مصر يبدأ من «صحن الأزهر».. فاقتحمته بخيولها
لم يكن الأزهر الشريف مجرد جامع وجامعة، بل كان شمساً جديدة تدور فى فلكها رحلة العلم والثقافة والعقل، حاملة ضياء إلى البلاد القاحلة، وزراعة بذور المدارس والمعاهد والجامعات فى الأقطار الجاهلة، كما كان حارساً لقيم الدين والدنيا بما ينجب من العلماء الذين يمثلون بورعهم واستغنائهم وأخلاقهم وشجاعتهم أسمى خصائص القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة.
هذا المحرر العظيم للضمير الإنسانى، ولإرادة البشر، أفراداً، وشعوباً، لا ندرى ماذا كان سيكون حال الذين لم تطلعُ عليهم شمسه، ولم يُشرق عليهم أمسه، عندما بدأنا نقرأ تاريخه، أدركناكم نحن محظوظون حين حملتنا الأقدار إلى رحابه، وقادتنا إلى محرابه، وحين شرعنا للتعرف إلى شيوخه رُحنا نتغنى بقول الشاعر:
أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
لم تكن هناك فضيلة من فضائل الحياة لم يتحلوا بها، ولا خلق من أخلاق الرجال وأحرار القلوب إلا اتخذوه شعاراً ودثاراً وكانوا له مناراً بتلك المقدمة للكاتب الإسلامى خالد محمد خالد أبدأ هذا التحقيق.
وللأزهر على مر العصورأدوار خالدة، صدَّ فيها تيارات شتى من الإلحاد والانحرافات والمذاهب الهدّامة والحملات التبشيرية ودعاة الفوضى والانحلال، وأدى عن الله مراده فحفظ الشرع والدين، ونافح عن القرآن العظيم، وقام على السنة، دراية ورواية، فحفظها من تغبيش المغبشين، وقد جعله الله منارة لأهل السنة، ومشكاة تنبعث منها أقباس مبادئهم وتعاليمهم بعد زوال ملك الفاطميين وظل الأزهر يحمل لواء هذا المذهب إلى الآن، غير وانٍ ولا مُقصر، ما جعله تاج المساجد ورابعها بعد المسجد الحرام والمسجد الأقصى، والمسجد النبوى فى المدينة، والسبب الذى من أجله استحق الأزهر هذه الرتبة، ونال دون غيره تلك المنزلة، هو أن المسجد الوحيد الذى حمل على عاتقه مهمة حماية الإسلام ولغته، وظل أكثر من ألف سنة كالطود الشامخ، لا تنال منه العوادى، ولا تؤثر فيه الخطوب والأرزاء، حتى صار قلعة الحنيفية وحصن العربية»، تلك مقدمة الدكتور حسين فوزى النجار لكتاب «الأزهر فى ألف عام» تأليف بيارد دودج.
إن الأزهر ليس مجرد «قلعة للسنة».. إنه ملتقى التسامح بين كافة المذاهب والأديان، وبحق وصدق ما قاله شوقى أمير الشعراء فى قصيدته المشهورة فى الأزهر ومكانته وكان مطلعها:
قُم فى فم الدنيا وَحَىّ الأزهرا ... وانثر على سمع الزمان الجواهرا
ومن أجل ذلك أدرك المستعمرون والمبشرون خطورته حتى قال أحدهم: «إن العمامة البيضاء -يقصد العمامة الأزهرية- فى إفريقيا أخطر علينا من القنبلة الذرية»، ويقول آخر: «لا يتأتى لنا الاستقرار فى هذه البلاد ما دام الأزهر موجوداً». وصرح «جلادستون» فى مجلس العموم البريطانى بأنه «لن يقر للإنجليز قرار فى مستعمراتهم ما دام فيها المصحف والأزهر، كما عمل الاستعمار وبعض التيارات والجماعات المتطرفة الفكرية والحزبية إلى الحد من دور الأزهر بشتى الطرق.
إن الأزهر أنقذ الأمة فى المفاصل التاريخية الصعبة.. وقاد الكفاح للتحرر من الاستعمار.
ويرى أعداء الأمة أن فى هذا الاحتجاج نفسه، وفى غياب الأزهر عن الساحة فرصة سانحة يجب عليهم أن ينتهزوها، ولا يجوز لهم أن يضيعوها، ففى ضياعها خسران كبير، والأمثلة على هذا المسلك كثيرة، وكلها تؤكد أن هذا التيار قد انحرف فيه محبو الأزهر ومبغضوه، والشائنون عليه والغيورون على مواقفه على حدٍ سواء.
إن شعوب الأرض تعرف «القاهرة» من خلال الأزهر، وشيوخه تميزوا بالاعتدال والوسطية، لكن الكثير من المغرضين دأبوا على اتهام الأزهر، واختلاق المقالب الشائنة لرجاله، وهم إذ يلصقون التهم الآثمة بهم إلصاقاً يتجافى عن الحق والإنصاف، إنما يهاجمون الإسلام نفسه من وراء ستار، ليحققوا مآرب خبيثة لا يقدرون على البوح بها علانية، ولا جرم فقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر.
ماذا يعنى الأزهر؟
الأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات قال فى مقال عنون له ب«الأزهر حصن العربية»: إن الأزهر يعنى فيما يعنى المعقل الذى حفظ الثقافة العربية ألف سنة ونيفاً، يسهر عليها، ويزيد فيها، وينفق منها على طلاب المعرفة فى الشرق والغرب، على حين دمر الجهل والكفر حصونها فى بغداد والأندلس، ويعنى الأزهر فيما يعنى الحصن الذى اعتصمت به اللغة العربية من عدوان الشعوبية والعامية والتركية حين استجم اللسان واستترك السلطان، وفشت الجهالة، وضعفت الخلافة وعز الناصر وذلَّ الأهل.
ويعنى الأزهر فيما يعنى: القبلة الثانية التى يوجه المسلمون فى جميع أقطار الأرض قلوبهم إليها يتلمسون على هداها الطريق إلى الحق والسبيل إلى الله.
ويعنى الأزهر فيما يعنى: الجامعة العالمية التى يؤمها الطلاب من كل أرض ومن كل لون ليتفقهوا فى الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لا يبغون من وراء ذلك مالاً ولا جاهاً ولا شهرة.
ويقول الدكتور مصطفى الفقى -المفكر القومى المعروف فى كتابه «منهج الثورة إلى فكر الإصلاح»: «وهى فى النهاية مصر.. عريقة الحضارة كبيرة القدر، ترى الأزهر درة فى تاريخها، ومسئولية فى أعناق أبنائها تنظر إليه الدنيا بالإجلال والإكبار والعرفان وهو شأن لو تعلمون عظيم».
يا مصر فيك النيل عذبٌ سائغ ... لكن أزهرنا الشريف الكوثر
وما النيل والأهرامات إلا قصيدة ... وأزهرها ديوان شعر معطر
ويقول الدكتور أحمد ربيع الأزهرى فى مؤلفه الجديد «من المواقف الخالدة لعلماء الأزهر الشريف: «إذا أرادت مصر أن تضع ثلاث صور فى قلب علمها، فإن أوسط هذه الصور تكون للأزهر ولعمامة شيوخه، فالعمامة الأزهرية هى رمز هذا المعهد الذى حفظ لمصر هويتها ولغتها وثقافتها، وأمدها بالأفذاذ من رجالها، وعقولها ومفكريها ومجدديها وقادة ثوراتها وضميرها الحى».. هذا هو الأزهر فلا تكسروا مئذنته.
فشعوب الأرض تعرف «القاهرة» من خلال ... وشيوخه تميزوا بالاعتدال والوسطية.
شيوخ الاعتدال
إن الأزهر منارة كبرى وشيوخه الكبار تميزوا بالاعتدال والوسطية، العالم الأزهرى الشيخ أحمد حسن الباقورى يقول: إن الأزهر كان فى الحقيقة رسالة تحقق بها ثلاثة ألوان من الخير للناس: أولها، نشر الرسالة الإسلامية القائمة على أصلين أصيلين، تحقق الحرية الصحيحة للمجتمع الإنسانى وإشاعة روح العدل فى هذا المجتمع أيضاً، وثانياً، مقاومة الأخطار التى تنشأ عادة عن سوء التأويل للقضايا الإسلامية، وذلك عن طريق الثقة المتوافرة فيه، والنظر إلى علمائه والمتخرجين منه بعين التقدير والاعتبار، ولهذا كان الأزهر فى كثير من أطوار حياته ملاذاً يلوذ به الناس فى مختلف المناسبات، ليرفع عنهم تطرُّف الطائفية حين تهدد الطائفية المتطرفة أمن البلاد وسلامة المجتمع، وثالثاً، منح آفاق فسيحة للناس فى كل بلاد العالمين على اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، ولهذا أصبحت للأزهر سمعة عالمية، وأصبح له أبناء وأنصار وتلاميذ فى كثير من شعوب الأرض الإسلامية وغير الإسلامية.
مكانة الأزاهرة
مواقف كثيرة تنم عن إحلال وتقدير للأزهر وشيوخه، وهناك نماذج كثيرة منها ما حدث مع الشيخ المعمِّر معوض عوض إبراهيم الشهير بالمعمر الأزهرى، فقد عمل مبعوثاً للأزهر الشريف فى اليمن حينما كان الجيش المصرى فى مهمة لمساعدة الثوار على الملكية وكان معه 6 من زملائه، 4 منهم فى الوعظ وهم المشايخ: بسيونى رسلان وعبدالحميد سالم، ومحمد الحسينى خليل، وثلاثة آخرون من الشريعة، كانت مهمتهم التنقل والدعوة لمساعدة الثوار، لكنه عاهد الله أن يعرض الإسلام بعيداً عن السياسة ورجع من اليمن عام 1964 ومع ذلك أصبح ذكره سارياً فى النفوس مسرى الورد فى الماء.
ويقول الشيخ معوض عوض إبراهيم: «لا أنسى عبدالله السلال زعيم الثورة اليمنية كان مشغوفاً بى على غير سابق معرفة، لأن رجاله قالوا له: إننى شخص محبوب باليمن وحينما كنت فى أسوان جاء عبدالله السلال وكان معه السادات الذى دخل ونحن جلوس بإحدى القاعات ولم يسلم علينا السادات وفجأة قال له عبدالله السلال: لديكم رجل عالم من الأزهر اسمه «معوض عوض إبراهيم» خير ما أهدته مصر لنا، وكان زملائى المشايخ قد قالوا: فلنذهب لنسلم على آلسادات ورفضت آنذاك وقلت: أسافر فوراً إلى مصر ولا أفعل ذلك، وغضبت، وفجأة بعد أن سمع الرئيس السادات شهادة عبدالله السلال فى حقى، قام السادات -رحمه الله- مسرعاً وجاءنى، ومعه السلال، وسلم علىّ الاثنان، فى صورة نشرت بالأهرام.. وهو يكاد يقبل يدى، فقال لى الزملاء: غضبت لله، إلا أن الرئيس السادات جاءك وسلم عليك وطيب خاطرك».
وفى عام 1970 سافر فضيلة الإمام الأكبر محمد محمد الفحام -شيخ الأزهر الأسبق- إلى الاتحاد السوفيتى السابق موفداً من رئاسة الجمهورية لزيارة الجمهوريات الإسلامية فى الاتحاد السوفيتى: أوزبكستان وطاجيكستان وكانت هذه الزيارة هى الأولى من نوعها لمسئول دينى إسلامى للدولة الشيوعية وعن منحه تأشيرة الدخول اشترطت الحكومة الروسية أن يشمل برنامج الرحلة زيارة مقبرة لينين مؤسس الدولة الشيوعية، فرفض الإمام «الفحام» لأنه رأى فى هذه الزيارة إهانة للمسلمين الذين اضطهدتهم الحكومة الشيوعية، وأمام تمسك الروس بفرض هذه الزيارة قرر الإمام الفحام إلغاء السفر، فتراجعت روسيا عن مطلبها حفاظاً على العلاقات التى كانت ترغب فى الاحتفاظ بها مع العالم الإسلامى، وبالتالى اقتصرت الزيارة على الجمهوريات الإسلامية فقط لدراسة أحوال المسلمين.
من أعلام الأزهر
إن الأزهريين أول من نادوا بالتنوير والنهضة العربية منذ القرن الثامن عشر، والأزهر منذ زمن بعيد له رجاله ومواقفه وعلماؤه ومشايخه، ولعل من أعلامه عمر مكرم قائد المقاومة الشعبية وله تاريخ نضالى معروف ضد الحملة الفرنسية، والنموذج الثانى هو محمد عبده رائد تجديد الخطاب الدينى.
أما عمر مكرم، فلم يكن زعيماً شعبياً عادياً مثل بقية الزعماء، بل كما قال الرافعى عنه: «كان للشعب زعماء عديدون يجتمعون ويتشاورون ويشتركون فى تدبير الأمور، ولكل منهم نصيبه ومنزلته، ولكن من الإنصاف أن يعرف للسيد عمر مكرم فضله فى هذه الحركة، فقد كان بلا جدال روحها وعمادها، وقد ولد عمر مكرم بأسيوط فى صعيد مصر عام 1750م فى أسرة من الأشراف وحفظ القرآن، ثم انتقل للقاهرة ليستكمل تعليمه بالأزهر الشريف، ثم تولى نقابة الأشراف عام 1793م بعد وفاة الشيخ محمد البكرى بتكليف من مراد وإبراهيم بك، وفى أواخر عام 1795م استنجد الشعب المصرى بالعلماء من فرض الضرائب وجمعها بالقوة، فهب شيوخ الأزهر لمساعدتهم وكان من بينهم عمر مكرم، وبعد مفاوضات عدة مع العلماء رضخ إبراهيم ومراد بك، وقاما برفع الضرائب عن الشعب، ومن ذلك اليوم بدأ اسم عمر مكرم فى البزوغ، وقد تميزت حياته بالجهاد المستمر ضد الاحتلال الأجنبى، فعندما اقترب الفرنسيون من القاهرة عام 1798م، قام عمر مكرم بتعبئة الجماهير للمشاركة فى القتال إلى جانب جيش إبراهيم باشا. ولكن نظراً لغياب القائد المحنك وتفكير إبراهيم بك فى النجاة بنفسه لحاقاً بأخيه مراد بك سقطت القاهرة فى أيدى الفرنسيين ففضل عمر مكرم وقتها السفر خارج مصر، حتى لا يظل تحت وطأة الاحتلال، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى للقاهرة ليشارك فى ثورتها الثانية ضد الاحتلال الفرنسى عام 1800م، وكان لها الأثر الملموس -بالرغم من أن الاحتلال الفرنسى نجح فى إخمادها وقتها- فى رحيل الفرنسيين عن مصر بعدها بعام واحد، وبالطبع علم قادة الاحتلال الفرنسى وقتها دور عمر مكرم فى الثورة، فقام بمطاردته لخارج البلاد ومصادرة أملاكه، لكن غيبته عن مصر لم تطل، فلقد عاد مباشرة بعد رحيل المحتل الفرنسى عام 1801م، ولم يلبث أن يهدأ حتى اصطدمت البلاد مرة ثانية بحملة فريزر الإنجليزية فى عام 1807م وكان محمد على وقتها منشغلاً بمحاربة المماليك فى الصعيد، فقام السيد عمر مكرم بتنظيم المقاومة الشعبية والتصدى للجيش الإنجليزى متسلحاً بدعم كل فئات الشعب، إلى أن نجح فى هزيمة الإنجليز فى رشيد، الأمر الذى تسبب مباشرة فى عودة الحملة الإنجليزية خالية الوفاض إلى أوروبا، وبذلك يكون عمر مكرم قد شارك الشعب المصرى فى هزيمة أكبر قوتين غازيتين وقتها فى أقل من 10 سنوات هما الحملة الفرنسية 1801 وحملة فريزر الإنجليزية 1807، وكذلك فى دعم الثورة على الطغيان فى الداخل بعزل الوالى خورشيد باشا، ولما استقرت الأمور لمحمد على كان نصيب العلماء والمفكرين النفى أو السجن، فقرر التخلص من زعماء الشعب ومنهم عمر مكرم فحدد إقامته بمدينة دمياط 1809م ثم طنطا 1822م وتوفى بها مؤثراً الصمت لعل أن ينصفه التاريخ.
أما محمد عبده، رائد تجديد الخطاب الدينى، بالرغم من أنه لم يعمر أكثر من 55 عاماً، إلا أن إسهاماته الفكرية منذ تخرجه فى الأزهر وحتى وفاته، كان لها أشد الأثر وذات شأن عظيم فى تطوير الفكر الدينى الذى هو أساس الخطاب الدينى، وكان أكثر ما نبه إليه الإمام محمد عبده دفاعه عن الدولة المدنية، وكان يعتبر نفسه فى الإفتاء يقوم بوظيفة مدنية دفاعاً عن تحرير العقل الذى نادى به الإسلام. وقد ولد الإمام محمد عبده فى قرية محلة نصر بمركز شبراخيت فى محافظة البحيرة لأب تركمانى وأم مصرية تنتمى إلى قبيلة بنى عدى العربية ودرس فى طنطا والتحق بالجامع الأحمدى ثم التحق بالأزهر، وبعد تخرجه عمل مدرساً للتاريخ فى مدرسة دار العلوم، ولما كان منهج الإمام محمد عبده متفتحاً وإصلاحياً يرفض العنف والتصادم، جاء موقفه من الثورة العرابية موقفاً مذبذباً يشوبه الشك، وإن كان هذا فى البداية فقط، إلا أنه شارك فى النهاية فى الثورة العرابية، وبعد الثورة حكم عليه بالسجن وتم نفيه إلى بيروت لمدة ثلاث سنوات، ثم سافر بدعوة من أستاذه جمال الدين الأفغانى إلى باريس، غير أنه يعد مؤسس صحيفة «العروة الوثقى» ثم أسس جمعيته بنفس الاسم، ولم يكن الإمام «عبده» صاحب سبيل نهضوى واحد، بل تعددت وسائله وسبله فشملت الكثير فى الاجتماع والسياسة وغيرهما، لكنه خالف أستاذه «الأفغانى» الذى تأثر به كثيراً، فقد كان مراده وتوجهه إلى النهضة العلمية إذ كان يرى أن النهضة فى العالم الإسلامى لن تأتى إلا بإصلاح التعليم، على عكس «الأفغانى» الذى كان يرى أن السبيل للنهضة لن يأتى إلا بثورة سياسية.
أما عن الأزهر وتجديده، فقد شن الإمام هجوماً شديداً على الدراسة فيه ونادى بإدخال العلوم العصرية سعياً لربط علماء الدين بمواكبة العصر، فهو لم يناد بالدراسة الدينية المنفصلة عن الدراسة المدنية، بل سعى لتطوير الأزهر لا ليجعل منه جامعة مدنية، ولكن ليؤهل خريجيه للتعرف على العلوم العصرية من منظور إسلامى، وقد وضع أمله وقتها فى دار العلوم لإصلاح الأزهر، بل ذهب للقول بإحلالها محل الأزهر، مما تسبب فى عداء بينه وبين رجال الأزهر المحافظين، وخلاصة الأمر أن الإمام بيّن أهمية الوعى بمسار التطوير التاريخى والتركيز على دور العقل فى مجال فهم الإسلام فهماً صحيحاً، ومن ثم نادى بضرورة العودة إلى منبعه واستخدام العقل الذى يتمتع به الإنسان فى فهم الإسلام، وقد رحل عنا فيلسوف الدين محمد عبده وترك وراءه جيلاً من تلامذته كانوا امتداداً للنهضة العربية ومنهم طه حسين وسعد زغلول زعيم ثورة 1919 التى استوعبت حركة النضال لتيارات المصريين، وقاسم أمين الذى تصدى لقضية تحرير المرأة، والشيخ محمد مصطفى المراغى والشيخ مصطفى عبدالرازق وكلاهما تقلد مشيخة الأزهر.
خيول بونابرت
كان الجامع الأزهر ملتقى المعارضين للاحتلال الفرنسى والساخطين عليه، ويشير «بونابرت» فى أكثر من موضع فى مذكراته إلى أن هؤلاء الناقمين على الحكم الفرنسى كانوا يجتمعون فى رحاب الأزهر كلما صدر عن السلطات الفرنسية تصرف مسىء.
وقبل أن تنقضى ثلاثة شهور من دخول الفرنسيين مصر إلا وأعلن علماء الأزهر الثورة على هذا المحتل، وفى مساء السبت 20 أكتوبر 1798م اجتمع فى الجامع الأزهر 30 من أعضاء مجلس الثورة وقد اتفقوا على قيام الثورة ضد الاحتلال الفرنسى صباح الأحد 21 من أكتوبر، حيث انطلق رجال الأزهر -شيوخه وطلابه- فى شوارع منطقة الأزهر يتنادون إلى الثورة، ويلهبون مشاعر الأهلين بخطبهم الحماسية ويدعونهم للجهاد ضد الفرنسيين ويطلبون منهم التجمع فى الجامع الأزهر.
إن فرنسا أدركت أن احتلال مصر يبدأ من «صحن الأزهر» فاقتحمته بخيولها، فبعد أن اشتعلت أحداث الثورة وقتل الحاكم العسكرى الفرنسى لمنطقة القاهرة الجنرال «ديبوى» وهاجم الثوار دار قائد سلاح المهندسين وهاجموا الجنود الفرنسيين فى الشوارع، كان بونابرت خارج القاهرة فعاد مسرعاً ليعلم أن الأزهر مركز الثورة، فأصدر أوامره بإطلاق الرصاص على الثوار والأهالى وأمر بضرب الجامع الأزهر بالمدفعية وتقدم الجنود الفرنسيون إلى الأزقة المؤدية للأزهر بعد رفع المتاريس التى وضعها الثوار وأعملوا القتل فى بقايا الثوار الذين كانوا معتصمين داخل الجامع، وربط الجنود خيولهم فى قبلة المسجد وأخذوا يبولون ويقضون حاجتهم فى شتى أرجاء الجامع، وألقوا بالمصاحف على الأرض وداسوا عليها بأحذيتهم ونهبوا كل ما وجدوه فى خزائن الطلبة ونهبوا الأموال والودائع، وكان سبب وجود هذه الثروات فى الجامع الأزهر اعتقاد المصريين أن الفرنسيين لا يجرؤون على دخوله، ولم يراع الجنود حرمة الجامع، وظل نضال علماء وثوار الأزهر آية إلى أن تم الرحيل والجلاء.
مآذن الأزهر
يقول الدكتور عبدالوهاب القرش، مدرس التاريخ مدير مركز الطبرى للدراسات الإنسانية، إن الأزهر هو أهم المساجد فى مصر وأشهرها فى العالم الإسلامى، وهو جامع وجامعة تجاوز الألف عام، ولا يزال منارة العلم المضيئة ومصنع الدعاة إلى الآلاف من الأساتذة والمعلمين، والدعاة الذين يحملون دعوة الإسلام إلى كل مكان، وبجوار دوره العلمى كان للأزهر دور توجيهى واجتماعى وسياسى، شهدت له به صحائف التاريخ، فقد كان الأزهر معلم الشعب ومرجعه فى النوازل، وحامى حمى الدين، وحارس لغة القرآن وناشر العلم والثقافة، وحامل لواء التربية والتوجيه، إن الأزهر الشريف أضاء جنبات العالم، فمن أبنائه المعلمون والقضاة والمفتون والوعاظ والأئمة والخطباء والكتاب والشعراء والمؤلفون والباحثون والعلماء والرياضيون والطبيعيون والإعلاميون والفلاسفة والثوار. ولعل مكتبة الأزهر خير شاهد على علو همة هؤلاء الرجال، وأكبر برهان على اتساع مداركهم العقلية والفكرية ومواهبهم الخلاقة المعطاءة التى أنتجت آلاف المراجع والمؤلفات التى يندر أن يوجد شبيه لها فى حضارات العالم الأخرى.
ويضيف «القرش» أن الأزهر الشريف تخرج فى أروقته ألمع الرجال فى كل علم وفن ومن بين أروقته تخرج أقطاب الشريعة والمحاماة والسياسة والأدب والشعر والموسيقى، وكانوا أقطاب الحركة التنويرية فى مصر التي قامت على أكتاف رجاله سواء فى المجال الثقافى أو الأدبى أو الإعلامى، ويكفى أن نعرف أن هناك أكثر من 140 ألف عالم من علماء الأزهر يؤدون رسالته فى نشر المفاهيم الصحيحة للإسلام، وفى أنحاء العالم أكثر من 150 من أساتذة الأزهر يدرسون علوم الإسلام، وفى معاهد وكليات الأزهر أكثر من 30 ألفاً من أبناء الدول الإسلامية وغير الإسلامية.
ويقول مدير مركز الطبرى للدراسات الإنسانية إن الأزهر الشريف على مدار تاريخه العريق تولى مشيخته أئمة عظام من أمثال الشيخ الإمام حسونة النواوى، والشيخ الإمام محمد عبده والشيخ الإمام محمد مصطفى المراغى والشيخ جاد الحق، وما زال العطاء مستمراً، والأزهر الشريف يرفض فرض رأى واحد أو فكر أو مذهب واحد يدعى أنه المعبر عن الإسلام، ولذلك يحرص على تدريس جميع المذاهب على اختلافها، ويجمع بين فقه الأحكام وفقه الواقع، أى أنه يجمع بين الأصول الثابتة والواقع المتغير مما لا يدرك قيمته الذين لا يدركون قيمة الاختلاف وتعدد الاجتهادات.
إن الأزهر الشريف هو المرجعية الوحيدة وهو المدافع عن الوحدة الوطنية والقائم بالحوار بين الديانات والثقافات والحضارات للتوصل إلى نقاط اتفاق وتعاون على البر والتقوى، وهو الذى يعمل على تجديد الخطاب الدينى، والأزهر الشريف وعاء لكل المبادئ النبيلة، مبادئ الأخوة والحرية والعدالة البشرية والتسامح التى هى روح الإسلام، هذا إلى جانب تسامحه ومساعيه للوفاق على الدوام مع الكنيسة المصرية وكل المسيحيين الشركاء فى الوطن.
إن الأزهر الشريف كان برلمان الأمة، وكان علماؤه نوابها الذين لا يبتغون جاهاً ولا يتقاضون أجراً، كان قوله الفصل وحكمه العدل ورأيه المسموع وأمره المطاع، يولى الملوك ويعزل الأمراء ويضع التيجان على رؤوس من شاء ويسقطها عمن أراد وهو فى الملك زاهد وعن الإمارة راغب وحسبه أنه اختار لنفسه أن يكون الموجه والمراقب والمشير.
وعن الأزهر وكفاحه ضد الاحتلال يقول د. «عبدالوهاب القرش»: إن الأزهر الشريف موقد الثورات الشعبية ومغذيها وقائدها ضد أى احتلال من الخارج، وما زال التاريخ يسطر بحروف من نور مواقف علماء الأزهر من الحملة الفرنسية ومن ظلم الولاة العثمانيين ومن طغيان المماليك والجائرين الذين جاءوا من بعدهم، إن الأزهر اشترك رجاله فى الثورة العرابية لمقاومة التدخل الإنجليزى، وكان أحمد عرابى ممن درسوا فى الأزهر، وبعد الاحتلال البريطانى لمصر أشعل شيوخ الأزهر الروح الوطنية ضد المحتل الإنجليزى، وعندما بدأت ثورات الشعب المصرى حاول قادة الاحتلال الإنجليزى زرع الفتنة الطائفية بين المسلمين والأقباط فى مصر، فكان الأزهر صمام الأمان الذى فطن لمحاولات المحتل، وتعاون شيوخ الأزهر والقساوسة الأقباط وخطبوا فى الأزهر والكنائس ضد المحتل الإنجليزى، وفى ثورة 1919 أذكى الأزهر روح الثورة ضد الاستعمار البريطانى، وكان الأزهر معقلاً للحركة الوطنية تنطلق منه جماهير الشعب، وكان للأزهر دور فى بث روح المقاومة فى نفوس المصريين ضد العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956، أيضاً كان للأزهر دوره الأساسى بعد هزيمة 1967، إذ قام شيوخ الأزهر بالخطابة وإشعال الروح المعنوية بين الجنود المصريين على الجبهة طوال ست سنوات، مما كان له الأثر الكبير فى انتصار الجيش المصرى فى أكتوبر 1973م.
ويؤكد أستاذ التاريخ د. «القرش» فى ختام حديثه أن الأزهر وإن كان قد مر بمراحل مختلفة من مدٍ وجذرٍ، قوة وضعف، استقلال وتبعية، إلا أنه لم يعدم من شبابه ورجاله الدعاة والمصلحين فى مختلف أطواره، ففى الفترة التى غفا فيها وألقى السلاح وفرط فى الإسلام كدولة، فإنه لم يفرط فيها كدين، إنما ظل الأزهريون يخطبون ويدرسون ويعلمون الشعب فى القرى والمدن والعواصم أصول العقائد وأحكام العبادات وآداب المعاملات ومكارم الأخلاق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.