ما أكثر الدعوات المطالبة بتجديد الخطاب الديني، لمكافحة الغلو ومواجهة الفكر المتطرف، وما أكثر السبل والمقترحات والندوات والمؤتمرات المحلية والدولية التى عقدت فى هذا الشأن، لكن الأمر الذى لا شك فيه أنه لا تجديد ولا تطوير، إلا بتحقيق واستعادة الثقة فى الوسيلة والأداة التى تنقل هذا الخطاب من بطون أمهات الكتب إلى عقول وأفهام الناس، وهم العلماء الأزهريون أصحاب العمائم البيضاء. ◄ تشويه الأئمة فى الأعمال الفنية يقوض مسيرة الدعوة ◄ عودة الهيبة ل «رجال الأزهر» أحد شروط التجديد ومحاربة التطرف ولم تكن «العمامة الأزهرية», على مدار قرون مجرد جزء من زى علماء ومشايخ الأزهر الشريف, ولكنها كانت رمزا يجمع حوله ملايين المصريين, مسلمين ومسيحيين, عبر العصور, فى نضالهم ضد الظلم أو المحتل الفرنسي, وهو ما تكرر أيضا خلال الثورة العرابية, ثم كانت العمامة الأزهرية العلم على ثورة1919 ضد الاحتلال البريطانى لمصر، وحتى خلال الفترة التى شهدت جهودا تنويرية لتحديث الفكر المصري, لم تغب العمامة عن مجالس المثقفين والتنويريين المصريين. وإذا كانت مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف, حاليا, تسعى جاهدة إلى استعادة مكانة العمامة الأزهرية, إلى درجة أنها تمنح أى عالم دين من موظفيها يعود إلى ارتداء العباءة, مرة أخري, علاوة مالية رمزية وبدل زي, وتحجب الترقية عن غير الملتزمين بارتداء هذا الزي. فإننا على الجانب الآخر نجد أن البعض قد ساهم بقصد أو غير قصد فى تشويه تلك الصورة الجميلة لعالم الدين، وفقدت العمامة الأزهرية كثيرا من هيبتها على شاشات السينما وبرامج «التوك شو»، مما نال من مكانتها لدى الرأى العام. يقول الدكتور عمرو عبد العاطى صالح، مدرس بكلية اللغات والترجمة، إن الأزهرى قديما كان له وقاره واحترامه، فالجميع كان ينظر بعين الإكبار للأزهريين وعمامتهم الرمزية، حتى إن الفلاح البسيط إذا مر بطلاب أزهريين معممين وكان يركب حماره كان ينزل عن حماره حتى يمر المعممون، تقديرا للعمامة وإن ارتداها أطفال صغار. وفى كل بلاد العالم، حتى فى الدول غير العربية - سواء الإسلامية أو الغربية - نجد احتراما كبيرا للزى الأزهرى بين مسلمى هذه البلاد وبشكل عام فى الدول الغربية المدنية، أما فى بلادنا فقد شوه الإعلام زى العلماء وسمتهم وهذا هو المشاهد فى الأفلام والمسلسلات، التى حسرت الزى الأزهرى فى المأذون وقراء المآتم، ومدرسى اللغة العربية الذين يتحدثون بطريقة كوميدية يسخر منها حتى ممثلى الكوميديا أنفسهم. إهانة الرموز وأضاف: إن التطاول على الأزهر أو إهانة رموزه خطر كبير، لأن علماء الأزهر هم المصدر الوحيد الموثوق به لإصدار الفتاوى وتعليم العلوم الشرعية، وإن كان من قصور وضعف علمى أو أخلاقى لدى بعض المنتسبين للأزهر، فإن ذلك يجب ألا يصدر للعامة على أنه النموذج الأزهري، فماذا يبقى إذا نيل من الأزهر واهتزت الثقة بعلمائه، كيف يجلس العامة بين يدى عالم معمم صوره الإعلام على أنه مرتش أو منافق أو شهواني. تشويه العمائم من جانبه يؤكد الدكتور على محمد الصعيدي، مدرس العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، أن الإعلام ساهم بقدر كبير فى تشويه صورة الأزهريين ورموز الدين، حيث إن أقلامًا مأجورة وشاشات تخدم أغراضًا خبيثة هدفها القضاء على الأزهر ورجاله، بالطعن فى الأزهر، بعد أن طعنوا فى السنة من قبل، وفى الصحابة رضوان الله عليهم، كما حاول أهل الفن قديمًا أن يبرزوا للناس أو للعامة خاصةً أن أصحاب العمائم البيضاء عبارة عن مأذون يستهزئ به الناس، وفى مرة أخرى يرتدى العمامة بالعكس، وفى حالة ثالثة يُعين على الحرام، ويوالى أهل الباطل ..إلى آخره، وشدد الصعيدى على ضرورة تصحيح الصورة الحقيقية للطالب والأستاذ والشيخ والعالم الأزهرى خاصة عن طريق وسائل الإعلام، وتوفير المناخ الجيد للدعاة واحترام العمامة الأزهرية وعدم امتهانها خاصة فى مجال التمثيل وجميع الأعمال التى تجعل الشخصية الأزهرية مثالًا لكل قبيح يذكر دون رقابة على هذا العمل، وإعطاء مساحة كافية بالفضائيات لرجال الأزهر لبيان المنهج الأزهرى الصحيح، والعمل على صدور قانون يجرم كل من يتطاول على الأزهر ورموزه. تاريخ تنويرى ونضالى وعن الدور والمكانة التى احتلها الأزهر عبر التاريخ يقول الشيخ أحمد ربيع الأزهري، الباحث فى تاريخ ومنهج الأزهر، إن العمامة هى رمز هذا المعهد الذى حفظ لمصر هُويتها ولغتها وثقافتها وأمدها بالأفذاذ من رجالها وعقولها ومفكريها ومجدديها وقادة ثوراتها وضميرها الحي..مثل أحمد عرابى وطه حسين، ورفاعة الطهطاوى وحسن العطار، وسليمان الحلبى الذى قتل «كليبر» وقُتل هو وأربعة من طلاب الأزهر، كما سجن الاحتلال الفرنسى شيخ الأزهر عبدالله الشرقاوى مائة يوم لأن الاحتلال الفرنسى اكتشف أن الرجل يعمل ضدهم. ولم يطمع الشرقاوى وعمر مكرم بحكم مصر وأجلسوا محمد علي، بل اسألوا التاريخ ماذا فعل الأزهر فى ثورة 1919م اسألوا عبدالناصر لماذا اخترت منبر الأزهر لتتحدث من عليه لأمتك المصرية والعربية أثناء العدوان الثلاثي، واسألوا الأحياء من أبطال نصر مصر الخالد نصر العاشر من رمضان السادس من أكتوبر كيف كانت عمائم الأزهر تذهب إليهم على خط النار لتحثهم على الجهاد وتحرير الأرض وعودة سيناء لحضن مصر. واسألوا المطابع كيف خرجت العقول الأزهرية النيرة ألوف الكتب التى تبرز صحيح الدين وتصحح المفاهيم، سوف تجدون كلمة واحدة «الأزهر»، لذلك عظم الأزهر وعمامة الأزهر فى نفوس الجميع حتى فى نفوس أعدائهم. هذا هو الأزهر الذى تهان عمامته من أدعياء العلم والأفلام والمسرحيات الهزلية وبعض الأقلام على صفحات الكتب والمجلات والجرائد الصفراء. استعادة الدور والمكانة ويرى الشيخ أحمد ربيع أنه لكى تعود هيبة العمامة إلى سابق عهدها، لا بد من اتخاذ عدة خطوات من أهمها إعادة الثقة للذات الأزهرية والعالم الأزهرى ولن يكون ذلك إلا بتعليمه تاريخ ومواقف شيوخه وعطاء مدرسته الحضارى ومنهجها العلمى والتربوى والفكرى ومواطن الريادة والسبق فى حماية الدين وتأصل العلوم الخادمة للشرع الحكيم، وكيف كانوا شوكة فى حلوق المستعمرين لرفع راية الوطن. كما يتوجب على الأزهريين الصادقين أن يتجمعوا ويتخلوا عن المصالح الشخصية وأن تتوحد العمائم الأزهرية فى كل أفرع المؤسسة الدينية (الأزهر والأوقاف والإفتاء) وأن توضع رؤية مشتركة تتكامل فيها الأدوار من أجل الحفاظ على الإسلام وثوابته وقيادة حركة التجديد على مستوى الفكر والخطاب وعلى هُوية هذه الأمة وخصوصيتها الحضارية, كما طالب بالتعجيل بإخراج شبكة تليفزيون الأزهر الشريف والتى يجب أن تشتمل على قناة عامة باللغة العربية وقناة الأزهر العالمية باللغات الحية، وقناة فتاوى، وقناة للقرآن والسنة، ليجد الناس قنوات اتصال فاعلة مع أزهرهم التليد. وشدد على أهمية عمل برامج لإعداد المفتين لأئمة وزارة الأوقاف وعلماء الوعظ من خريجى كلية الشريعة ليتم افتتاح خمسين لجنة فتوى كمرحلة أولى وتكون مقراتها المساجد الكبرى ومقرات الوعظ والمعاهد الأزهرية, على أن يكون هناك تدرج هرمى فى كل محافظة لجنة عليا للفتوى ولجان عامة فى المدن ولجان الفتوى العادية فى القرى والنجوع ويكون ذلك من خلال تدرج علمى كما يتيح فرصة الإحالة فى حالات الفتوى الدقيقة ويمكن الاستفادة من أساتذة الفقه فى كليات الشريعة فى جامعة الأزهر. التنسيق بين الأزهر ووزارات الأوقاف والثقافة والتنمية المحلية والتعليم والشباب والرياضة لوضع رؤية لإعادة الشخصية المصرية لمكنونها الحضارى وأصالتها من أجل خطاب دينى فاعل يعيد العمامة الأزهرية لدورها الحقيقي، ويجب أن يختفى التربص بين الخطاب الدينى والخطاب الثقافى وأن يتكاملا فى صناعة مشروع فكرى ومعرفى للدولة المصرية. ويرى الشيخ أحمد ربيع الأزهري، أن من أبرز الخطوات الواجب اتباعها لإعادة الثقة إلى العمامة الأزهرية تجريم أى شخص يرتديها بدون أن يكون منتسبا للحقل الدعوى أو العلمى فى الأزهر والأوقاف والإفتاء، كما يجرم أيضا الفتوى لغير المتخصصين. وأن يطلق الأزهر مشروعا علميا لنشر الأعمال الكاملة لعلماء الأزهر والتى كادت تندثر فى خضم هذا الموج الهادر من الكتب التى لا تعتمد على منهج علمى أو وسطى صحيح الفهم. وأضاف: إنه يجب على المؤسسات المعنية أن تعيد للعالم الأزهرى دوره المجتمعى مرة أخرى و يمكن أن يستفاد من أنشطة وبرامج (بيت الزكاة) التابع للأزهر ولذلك نقترح أن ينشئ الأزهر فى كل محافظة مركزا تحت عنوان (بيت الأزهر لخدمة المجتمع) ويشتمل فرعا لبيت الزكاة ومقرا للجان الفتوى والمصالحات والتثقيف المجتمعى والمواجهة الفكرية وبيت العائلة ولجنة الاتصال مع المؤسسات المختلفة، وأن يصمم الأزهر برامج أنشطة لطلابه لغرس انتمائهم للأزهر ولمصر، وأن يعلن عن مسابقة بحثية وأدبية وفكرية للتعريف بالأزهر ودوره التاريخى بين طلاب المدارس والجامعات، مع إعداد أفلام وثائقية قصيرة للتعريف بالأزهر فى مراحله المختلفة وجهاده فى خدمة الإسلام والمسلمين والعلوم والمعارف ومصر وشعبها ويتم إرسالها للقنوات الفضائية وبثها على شبكات التواصل، وقبل كل هذا وذاك لابد أن يعتز كل أزهرى بعمامته وأن يدور فى فلك الإسلام والحق ومصلحة الخلق.