بينما يتابع الطفل المسيحي في مصر مشاعر البهجة والسعادة في عيون أطفال العالم (الذي بات قرية صغيرة) عبر وسائط الاتصال، فإنه يسأل أبويه اليوم عن غياب مظاهر الاحتفال التقليدية الغربية منها والشرقية مفتقدا وجود معظمها في البيت.. أين شجرة الميلاد التي كانت توضع في تلك الركنة من أركان البيت الدافئة, تنير فيها الأضواء متعددة الألوان، متذكراً حكاويهم له أن أول ما وُضعت شجرة العيد، كانت في البيوت الألمانية في القرن الثاني عشر، وأنها تمثل شجرة الفردوس الوارد ذكرها في الكتاب المقدس، فقد منع الله تعالي آدم وحواء, عن الأكل منها وهي ترمز بثمارها اليانعة الي الشهوة المحرمة.. فسقطا آدم وحواء في التجربة, فطردهما الله من الفردوس, وجعل لهما الآلام علي أنواعها إلا أنه تعالي, عاد فوعدهما بالمسيح المخلص.. لقد كان الألمان, يدققون النظر في الحقائق والأسرار من خلال شجرة الميلاد ويتغنون بها وهم ينتظرون مجيء المخلص, الطفل الإلهي. ويسأل الطفل عن المغارة التي يتم وضعها في مداخل البيوت مُضيئة بألوان خافتة بديعة تُجسد مشهد الميلاد في مزود للبقر في تلك المناسبة، وكيف كان الأب يحكي له عنها، والتي يرجع تاريخها إلي القديس فرنسيس الأسيزي, في القرن الحادي عشر.. إذ هو أول من صنع تماثيل المغارة فأنس فيها لنفسه ولنفوس المؤمنين مبعثاً للتقوي والفضيلة وراحت هذه العادة تنتشر شيئاً فشيئاً في أرجاء إيطاليا ثم في الأرض كلها، ومشهد الرعاة عندما ظهر الملاك وحمل البشري الكبري للناس وأولاً للرعاة.. فالبشارة هي لجميع الناس دون تمييز ودون استثناء, فهي للفقراء والبسطاء لأن نفوسهم طيعة ولينة.. ظهور النجم للرعاة الساهرين في الليل تألق مجد حولهم, وهو نور يبهر الأنظار ويثير الدهشة وللمجوس ملوك فارس (ظهر نجمه في المشرق) التي يتقدمهم الي الموضع الذي كان فيه يسوع هو النور وميلاده نور يُضيء (الجالسين في الظلمة) أشعيا العهد القديم.. يسوع لا يولد إلا بعد إشارة ودلالة وهذه الدلالة هي النور والنجم الساطع.. يسأل الطفل ونأمل أن تعود قريباً لبيوتنا ملامح البشر والسعادة. إنها بعض مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد المجيد.. ميلاد رسالة السلام والمحبة لكل البشر وحكاويه التي تتناقلها الأجيال، وباتت تشكل تراثاً طريفاً ومفرحاً، ولكن للأسف يدخل أقباط مصر كنائسهم هذا العام ليقيموا شعائر صلاة عيد الميلاد المجيد، وصور شهداء مذبحة كنيسة القديسين، وأيضاً شهداء مجزرة نجع حمادي في الذكري السنوية الأولي والثانية لاستشهادهم داخل وخارج الكنيسة في مناسبة ميلاد السيد المسيح، ماثلة في أذهانهم ووجدانهم لاتبرحها لوحشية تفاصيل الأحداث، ولغياب تطبيق آليات العقاب، واختفاء الجناة من عالمنا بغرابة غير مقبولة (وتكرارالأحداث - للأسف - بنفس السيناريوهات الرذيلة بعد ثورة يناير)، لكن يبقي الأمل موجوداً، ومن لا يري ذلك أحيلهم لمشاهد حدثت مؤخراً تؤكد أن الثورة مستمرة.. مصريون بكافة عقائدهم ومذاهبهم يُصلون ويبتهلون في رحاب كنيسة المقطم في ليلة «الرجوع إلي الله».. وعندما تنتهك أعراض بنات مصر، تتنادي النساء مِن كُلِّ حَدْبٍ وَصَوْبٍ في تظاهرة هي الأروع في تاريخ ثوراتنا لتعلن رفضها ومعها رجال مصر الأحرار للأفعال الخسيسة التي تنال من شرف الأمة (باستثناء 3 نساء فقط يحسبهن البعض للأسف علي النخبة المصرية، وأعتقد أن القارئ ومشاهد برامج التوك شو قد أسقطهن من دوائر الاحترام والوطنية بما قدمن من رذالات تصل إلي حد التعاطف مع الجاني علي حساب المجني عليهن!). أيضاً تجدد الأمل، عندما احتشد الآلاف من المصريين الشركاء في وطن واحد في ميدان التحرير يحملون الشموع المضيئة في برد ليالي ديسمبر الماضي لإحياء ذكري استشهاد أبناء نجع حمادي والإسكندرية ليلة عيد الميلاد في الكنيسة الأولي منذ عامين، والثانية منذ عام في احتفال الكنيسة بليلة رأس السنة.. يرفعون الشموع ويرتلون ترانيم وابتهالات الحب والانتماء لمصر الثورة، ولأول مرة يُحيي أقباط مصر صلوات مناسبة لها طابع روحي خارج كنائسهم «وطنهم الروحي» الذي كان قد تحول للأسف لوطن سياسي بديل، فتفتح ميادين الحب المصرية ومساحات الوطنية الرحبة أحضانها لهم في مشهد مصري عظيم. «ميلاد المسيح رسالة دافئة في ليلة باردة» عبارة شديدة البلاغة والإيجاز جاءت علي لسان قداسة البابا شنودة الثالث.. لقد كانت بحق رسالة المسيحية رسالة دافئة بتعاليمها التي بشر بها السيد المسيح، والتي بدأت بحدث الميلاد المُعجز، ومازال يُبشر بها في العالم عبر آيات كتابه العهد الجديد ومنذ أكثر من ألفي عام.. يقول قداسته: «عاشت القديسة العذراء أطهر امرأة في الوجود، والتي استحقت أن روح الله يحل عليها.. وقوة العلي تظللها.. والتي بشرها بميلاد ابنها: الملاك جبرائيل.. وكانت الوحيدة في العالم التي ولدت ميلاداً بتولياً». لقد جاء توقيت ميلاد المسيح في عصر مظلم ليعطي رجاء بأن روح الله يعمل حتي في العصر الخاطئ المبتعد عنه.. إن الفساد السائد في ذلك الزمن لم يكن عقبة تمنع وجود الأبرار فيه.. كما أن فساد سادوم من قبل لم يمنع وجود رجل بار هو لوط. وفي كل جيل فاسد يستحق طوفاناً ليغرقه، لابد من وجود إنسان بار مثل نوح ليشهد للرب فيه، فالله لا يترك نفسه بلا شاهد.. وهكذا كان العصر الذي ولد فيه المسيح، كان روح الله يعمل - خاصة وسط مختاريه - لكي يمنحهم حياة النصرة علي ذلك الجو.. ولكي يقيمهم شهودا له. فاستحقوا أن يروا ملائكة، وأن يتسلموا رسالات إلهية. لقد اقترب الكاتب الكبير عباس محمود العقاد في كتابه عن السيد المسيح من واقع الناس في تلك المرحلة قائلاً: «لقد عاش الناس دنيا آفتها مظاهر الترف ومظاهر العقيدة، ومن وراء ذلك باطن هواء، وضمير خواء، فلا جرم يكون خلاصها في عقيدة لا تؤمن بشيء كما تؤمن ببساطة الضمير، ولا تعرض عن شيء كما تعرض المظاهر، ولا تضيق بخلاف ما تضيق بالخلاف علي النصوص والحروف وفوارق الشعرة بين هذا التأويل وذلك التحليل.. لقد أتت المسيحية بعقيدة قوامها أن الإنسان خاسر إذا ملك العالم بأسره وفقد نفسه، وأن ملكوت السموات في الضمير، وليس في القصور والعروش، والمرء بما يضمره ويفكر فيه، وليس بما يأكله وما يشربه وما يقيمه من صروح المعابد والمحاريب. إنه إذن ملكوت الضمير، والضمائر تحييها الثورات، والثورات يتشبث بتحقيق أهدافها وطنيون بواسل، والوطن عامر بهم بإذن الله وهم لن يبارحوا ميادين الحرية وفاءً لدماء الشهداء وعيون الأحباب التي ضاع نورها وبقت بصيرتها تنير لنا الدرب، يظل «التحرير» قادر علي التغيير.