يا شادي الألحان.. أسمعنا رنات العيدان.. يالللي آه يالللي.. في حضن العازف ينام العود.. فيدندن بريشة حرة علي دقات قلبه فلا تعرف إن كان ذلك قلبه أو قلب من احتواه بروحه. العود آلة موسيقية ذات خصوصية شديدة تشاهده دائماً ملتصقاً بجسد العازف الذي يلفه بحميمية شديدة ويسند رأسه عليه، حالماً متوحداً مع ما يبعثه من أوتاره من نغمات ساحرة ملهمة. فلا نتعجب عندما يوصي الموسيقار العظيم فريد الأطرش بأن يوضع معه العود في قبره، وأن تزين جدران القبر صورة «لشادي الألحان بلبل الشرق وهو يعزف علي عوده» وحكي مؤرخو الموسيقي والغناء الكثير عن عشق «الأطرش» لعوده.. لذا فلصناعة العود أبعاد فنية إنسانية، فضلاً عن كونها مهارة وإحساسًا، وصانع العود غالباً ما يتقن العزف عليه.. وهذا ما وجدنا عليه عم «محمد» أشهر وأقدم صانع عود في محرابه الكائن بشارع محمد علي.. إنها ليست دكانا أو ورشة أو أي مسمي آخر، فعندما تشاهد الرجل واضعاً سيجارته في فمه، بينما يهتز رأسه في حالة «سلطنة وعشق» يشد الأوتار شدّا بمقدار من الصعب أن تطلق عليه غير لقب فنان. رغم أن عمره قارب علي السبعين فإنه في صنعته يمتلك حيوية شاب في العشرين. يقول عم «محمد»: صنعة العود فن من زمان وعلاقة العازفين والمطربين العظام بصناع أعوادهم تؤكد ذلك، وكان أول ما تبادر إلي ذهني أن أسأل الصانع الفنان: لمن صنعت آخر عود بيديك؟ للمطرب الكبير محمد الحلو، وهو زبوني من أيام كان طالباً في المعهد. ومن يشتري منك العود الآن في زمن ال«دي جي»؟؟ أصحاب المزاج والطرب الأصيل والفنانون بخير، أما أكثر زبائني فهم من معهد الموسيقي.. ويأتيني زبائن من كل أنحاء الوطن العربي، وهناك أجانب أيضاً يعشقون الفن الشرقي. سألت عم «محمد» عن أهم شيء في مكونات العود فقال: «القصعة»، فكلما كانت الخامة قيمة علا ثمن وجودة العود، وهناك عود من الأبانوس وعود من خشب الموسكي، أما الأوتار فهناك الألماني والمصري والأمريكاني ومن الممكن أن يُطعّم العود بالصدف الحر، والمشاهير تفننوا في اقتناء العود الثمين مثل «فريد» و«السنباطي» وعلي مر الزمان تفنن كبار شيوخ المهنة في صناعته، مثل جميل جورجي و«الجوهري» ومحمد فاضل حسين، حتي وإن كان بعضهم غير مصري أو له أصول غير مصرية فقد لمعوا في مصر ولعل «الجوهري» وجميل جورجي أشهر صُناع العود خير مثال علي ذلك. والباحث في تاريخ هذه الصنعة يتأكد من تلك الحقيقة فعلاً، فقد كان «الجوهري» مصرياً من أصول تركية وشغل منصب رئيس قسم صناعة الآلات الموسيقية بمدرسة الصناعات الزخرفية ببولاق، تميزت أعواده بروعة ودقة زخارفها ومتانتها وعذوبة نغماتها، ما يجعله يستحق لقب إمام صُنّاع العود في مصر والوطن العربي عن جدارة. ويحكي أن «الجوهري» أهدي الملك «فاروق» عودًا مطعّمًا بالذهب من صناعته، كما تعامل مع أشهر ملحني القرن العشرين كأحمد صدقي ورياض السنباطي الذي صنع له أربعة أعواد، أيضًا كان ل«الجوهري» الفضل– بطريقة غير مباشرة– في ظهور موهبة عز الدين حسني شقيق نجاة الصغيرة وسعاد حسني التلحينية، حيث كان «الجوهري» صديقًا لوالده حسني البابا وكان يهديه عودًا كلما تنجب زوجته، عليه اسم المولود الجديد، وكذلك أيضاً جميل جورجي الذي ولد في حلب بسوريا، وانتقل برفقة عائلته إلى مصر وعُرِف جميل جورجي بصناعة أفخم الأعواد وأدقها صنعًا، حتى إن الكثير من الأسماء من الفنانين والملحنين من داخل مصر وخارجها قصدوه طالبين منه صناعة أعوادٍ لهم مثل فريد الأطرش وطلال مداح ومحمد القصبجي. و«جورجي» هو صانع العود الذي غنّى به الفنان فريد الأطرش أغنيته الشهيرة «الربيع» عام 1949، وقد استغرقت صناعته ستة أشهر كاملة، وكلّفه أربعة آلاف جنيه وقد أُعجب به الفنان فريد الأطرش إعجابًا شديدًا، حتى إنه أهدى جميل جورجي ساعة ذهبية. كما ابتكر فاضل حسين عود السحب، المُقاوم لتقلبات الجو، وطلبه منه الفنان منير بشير الذي تم فيه تحويل الفرس الذي يربط الأوتار إلى ظهر العود كي يستطيع العازف سحب الأوتار لأعلى درجة دون الحاجة إلى الضغط على وجه العود، وقال لدينا مشاهير والناس «ما تعرفش زرياب أشهر صانعي العود في عهد هارون الرشيد» ولا يعرفوا «جورجي» ولا غيره وخايفين ينسوا كمان «فريد» و«القصبجي» و«أم كلثوم».. لما يكون عندنا تراث وتاريخ فنحن نمتلك كنزاً لكننا لا نعرف قيمته. وطالب عم محمد بمزيد من الاهتمام بصُنّاع آلة العود كي يتم إنصافهم معنويًا وعدم تجاهلهم وقال: يجب تنظيم مهرجانات خاصة بالعود ومناقشة ما يطرأ علي الصنعة من مخاطر وينبغي عمل ورش العمل لتعليمها للشباب ليقبلوا عليها من أجل الحفاظ علي هذا التراث من الاندثار فنحن أحوج ما نكون للحفاظ علي آلاتنا وموسيقانا فنحن أصحاب حضارة إنسانية ويجب أن نحافظ عليها.