بمجرد إعلان النتائج الأولية التى تشير إلى أن دونالد ترامب سيكون الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة، كتب فلوريان فيليبو كبير الاستراتيجيين فى الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة فى فرنسا، على تويتر يقول «عالمهم ينهار، وعالمنا يُبنى». من هؤلاء الذين عالمهم ينهار؟ إنه النظام الذى تمركز حول أمريكا ونشأ من أنقاض الحرب العالمية الثانية. أما القوى الجديدة التى يثق فيليبو بأنها ستقوم بالبناء على أنقاضه فهى فى الواقع قوى قديمة، وهم القوميون الإثنيون الذين كانوا السبب فى أن يصل العالم إلى الحالة التى كان عليها فى 1945 والتى اضطرت إلى بناء كل هذا النظام. فلولا النزعات القومية المتطرفة فى ألمانيا وإيطاليا التى أسفرت عن اندلاع الحرب العالمية الثانية، لما قام النظام العالمى الذى تزعمته فى البداية أمريكا والاتحاد السوفييتى ثم انفردت الأولى بقيادته فى العقدين الأخيرين. فى رواية فلان أوبريانز الساخرة الفم الجائع The Poor Mouth كانت هناك خريطة للعالم كما يراها الفلاحون الأسكتلنديين. وهى تأتى ببوصلة تشير إلى الاتجاهات الأربعة: الغرب، الغرب، الغرب، والغرب. تصور البوصلة خريطة العالم بحسب ما كان فى أذهان الأوروبيين. فرغم كل محاولات الاتحاد الأوروبى فى أن يصبح قوة عظمى مستقلة، واصلت أوروبا النظر للغرب (المتمثل فى أمريكا) على أنه القيادة. كان هناك افتراض بأن الولاياتالمتحدة هى القوة الحاسمة، التى تعطى أفعالها، جيدة أو سيئة، للعالم شكله الأساسى. لقى تلقى هذا الافتراض ضربة قاتلة بفوز ترامب الذى لا يخفى رغبته فى تنأى الولاياتالمتحدة عن أن تقوم بدور شرطى العالم والقوة المتحكمة فيه. وهذا فى حد ذاته يبين لنا أنه مهما كانت نوايا الرئيس الجديد، فالولاياتالمتحدة ليست فى حالة تؤهلها للعب هذه الأدوار. فى الأزمة الأمريكية التى يجسدها ترامب، تهاوى المفهوم الكلى لنظام عالمى يتمركز حول الولاياتالمتحدة. الحالة التى عليها أمريكا كانت موجودة منذ فترة ولم تكن تنتظر سوى لحظة فارقة تتكشف فيها. إذ لم يتمكن أوباما (ووزيرة خارجيته هيلارى كلينتون) أبدا من استعادة القيادة الأمريكية. قدرة الولاياتالمتحدة على استعراض قوتها لم تتعاف من كارثة العراق. التردد والارتباك اللذين اتسمت بهما ردود أفعال الولاياتالمتحدة إزاء الربيع العربى لم يكونا مجرد عمل قيادة ضعيفة. لقد عكسا حقائق جديدة لعجز الولاياتالمتحدة عن تشكيل عالم فوضوى بما يلائم رغباتها وعدم استعداد الأمريكيين لترك أبنائهم وبناتهم يموتون فى معارك لا يرون فائدتها لهم. وراء كل الجعجعة حول استعادة مكانة أمريكا باعتبارها القائد العالمى، يبدو أن ترامب يفهم هذه الحقائق. رده عادة كان مزيجاً غير متماسك من الانعزالية المناهضة للنزعة العسكرية والأحادية ذات النزعة العسكرية. وتعود أمريكا بفوز ترامب لفكرة الدولة المنكفئة على نفسها مثلما كانت عقب الحرب العالمية الأولى، يجعل الانكفاء والعزلة من أمريكا الدولة القائدة التى تبشر بقيمها كقيم عالمية وبثقافتها كثقافة عالمية تسعى لفرضها من الشرق إلى الغرب، إلى دولة قومية تزيح من على كاهلها تبعات القيادة لتتفرغ لمشكلات الداخل. ربما هذا ما يريده الأمريكيون بدلا من التكاليف الضخمة التى تحملوها طيلة عقود جراء عقود. الأهم أنه لا يوجد الآن ما يمكنه ملء هذا الفراغ. كما أن نجاح ترامب سيدعم ويشجع الحركات اليمينية العنصرية الموجودة فى أوروبا على السير على نهجه بما يمهد لصعودها إلى سدة السلطة فى بلادها، وهو الأمر الذى لو حدث سيهدد الاتحاد الأوروبى ذاته. لهذا نجد الفزع الذى يجتاح أوروبا جراء فوز ترامب لإدراكهم العواقب الوخيمة لصعود الحركات اليمينية المتطرفة إلى السلطة فى بلادها. كما أن هذا دفع وزير الخارجية الألمانى فرانك فالتر شتاينماير لدعوة دول الاتحاد الأوروبى إلى عدم التعويل على أمريكا بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا لها، خصوصا فى مجالى السياسة الخارجية والأمن. ونقلت وسائل الإعلام الألمانية عن شتاينماير قوله فى 9 نوفمبر تعليقا على فوز ترامب «من المهم لبرلين والاتحاد الأوروبى أخذ زمام المبادرة الذاتية فى قضايا السياسة الخارجية والأمن».