ميدان «الكيت كات» الشهير، مفتتح حى إمبابة الشعبى وبوابته الصاخبة، حركة البشر فيه والدوران حوله لا تهدأ، لا تمنع غبشة الصبح الصالحين من أهل الميدان أن يصلوا الفجر فى جامعه الشهير «خالد بن الوليد»، ولا تساقط قطرات الندى على أوراق الشجر وشبابيك البيوت، أن يستيقظ سكانها رافعين عيونهم إلى السماء بنفس راضية بالرزق القليل ولحظات الفرح الواهية، حتى شح أعمدة النور الحكومية، يتحداها قاطنو الميدان فيضيئوا ليلة بالونس وأحاديث العشرة والصداقة، وعرض تقارير الشقاء اليومية ممهورة وموقعة بضحكات مرسومة على وجوه هدها التعب ولم تهزمها الحياة بعد. «العوامات» هى فقط الصامتة فى الميدان، تتهادى على صفحة مياه النيل الرقراقة فى تأدب وسكون، تتمنى أن تأخذ من أهل الميدان بعض تفائلهم ومقاومتهم لغدر الزمن. إنها «عوامات النيل» أو حورياته المتلالئة فى ليالى القاهرة فى بدايات القرن الماضى حتى ستينياته، فى جوفها أقيمت سهرات لملوك وباشوات، وفى غرفها المغلقة تشكلت حكومات وسقطت وزارات، وخلف وصلات الرقص الساخنة، تجسست الراقصة الشهيرة حكمت فهمى على ضيوف عوامتها الضباط الإنجليز الذين يميلون إلى الثرثرة عن تحركات جيش الحلفاء فى مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، فنقلتها إلى الألمان لكى تصل إلى قائدهم الثعلب الماكر «روميل» وهو فى صحراء العالمين. هنا عند مرسى العوامات الرابضة على ضفة النيل المطل على ميدان «الكيت كات» الشهير، ربما لأول مرة يداخلنى شعور أننى خفيفة وأن أكتافى المثقلة طوال الوقت وأشكو منها وكأن فوقها حجارة، قد أسقطت ما عليها من هموم الحياة ومتاعب السنين، وشفيت من سقمها للأبد، وأن جميع الأصوات المصاحبة لنهارى قد سكتت شيئاً فشيئاً، عشت ساعات فى الهواء الطلق فوق أفق من السماء الزرقاء بلا حدود، واقتربت ولأول مرة ربما فى حياتى من صفحة النيل العظيم والجميل، على الرغم من أننى قاهرية المولد والنشأة. الحاجة «إخلاص» أقدم ساكنة عوامة، سيدة ستينية تحمل ملامحها بقايا جمال آخاذ، استقبلتنا ببشاشة كمن يعرف واجبات أن تكون العاشق الأخير والشاهد الوحيد الذى سيحكى تاريخ حوريات النيل أو عواماته. فى شرفة عوامتها الملامسة أسوارها لصفحة النيل، وفوق وسائد كنب بلدى مغطى بقماش مموج بألوان زرقاء وروزات زاهية كالطبيعة حولها، تحدثت الحاجة «إخلاص» ابنة الدكتور «إبراهيم حلمى» طبيب الفقراء وعاشق النيل الذى أصر أن يستقبل أبناءه الثمانية فوق مائه وداخل عوامته التى لم يعرف سكنًا غيرها: عشت حياتى كلها فى النيل وداخل عوامة، لم أفارقه سوى سنوات قليلة بعد زواجى حيث سكنت فى حى الزمالك، كانت بالنسبة لى سنوات من العذاب والجحيم محاطة طوال الوقت بجدران تشعرنى بضيق النفس والحياة، تمسكت بعوامة والدى بعد رحيله، وكنت أعتنى بها وأقيم فيها على فترات أنا وزوجى الراحل حتى قررت عدم مغادرتها مرة أخرى، فالحياة فى الغرف المغلقة لا تطاق، لم أرزق بأبناء والنيل هو جليسى وونسى فى ليالى الصيف، عوامتى مقابلة لساقية الصاوى الكائنة على الضفة الأخرى من النيل، أحياناً أذهب لحضور الحفلات وفى أكثر الأوقات تحمل نسائم النيل صخبها الى وأنا جالسة فى الشرفة، فأشعر بالصحبة والمتعة. حكايات الحاجة «إخلاص» كنز إنسانى لا ينضب، والاستماع إلى حديثها يسرق الوقت ويضفى على ساعاته فرح داخلى، سرعان ما سيخبو حينما تتركها لتعود لدنيا الناس وضجيجها، فهى مؤرخ المكان بلا منازع تقول كمن يعرف انك ستسألها فى الأمر: هناك نوعان من العوامات نوع ثابت لا يتحرك من مكانه.. وهو عادة يكون من الخشب حتى يطفو فوق المياه، وبعد بنائها يتم تثبيتها وشدها للمرسى بخزانات حديدية ضخمة حتى لا تجرفها المياه، ومن ثم يتم توصيل المرافق إليها، والعوامة غالباً ما تتكون من طابقين ومهيأة للسكن تماماً.. ومن الممكن أن تكون فى الطابق 4 حجرات يطل معظمها على النيل. أما النوع الثانى من العوامات فيحتوى على موتور ينتقل بها من مكان إلى مكان، وكان أصحاب مثل هذا النوع من العوامات يتجهون بها إلى الشواطئ خلال فصل الصيف خاصة مصيف رأس البر، وكان هذا النوع يعرف باسم «الدهبية». تصمت الحاجة «إخلاص» لتلتقط أنفاسها، فتذكرت دهبية الفنان الكبير فريد الأطرش وكانت أشهر عوامات الزمالك فى فترة الأربعينيات، حيث قام فيها بتأليف أغلب ألحان أغانيه. أما عوامة أستاذة الفنان الكبير فريد الأطرش وصاحبة اكتشاف موهبته الفنية الأصيلة، فهى الراقصة اللبنانية الأشهر فى سماء القاهرة فى العشرينيات والثلاثينيات بديعة مصابنى، وكانت تقع أمام فندق شيراتون القاهرة. يعود صوت الحاجة «إخلاص» ليأخذنى مرة أخرى إلى جوارها، قائلة: إن البكباشى زكريا محيى الدين هو السبب وراء إزالة العوامات من نيل القاهرة، كان عددها يبلغ حوالى 500 عوامة، فى بداية الخمسينيات كان البكباشى زكريا محيى الدين يمارس رياضة التجديف فى النيل كل جمعة وكانت العوامات تضيق مجرى النيل فأصدر قراراً بإزالتها، وفى عام 1966 صدر قرار بنقل 65 عوامة من شاطئ العجوزة إلى إمبابة وإعدام 37 عوامة أخرى.. ومع مرور الزمن لم يتبق من ال500 عوامة سوى 23 فقط 9 عوامات فقط مرخصة منها. تتركنى الحاجة «إخلاص» فى شرفة العوامة متعللة بقضاء أمر ما، مانحة إياى فرصة لاتساع حدقة عينى لكى تستوعب كل هذا الجمال الربانى، ولكى أكتشف وبعد سنوات طويلة ذلك السحر الهادئ الكامن فى أدب كاتبنا الكبير نجيب محفوظ وأعاجيب السرد فى رواياته، فنجيب محفوظ هو من أكبر دروايش النيل ومجاوريه، حيث عاش «محفوظ» فى عوامته على شاطئ نيل القاهرة قرابة ال25 عاماً، وكان قد اشترى الدور الثانى من العوامة التى يمتلكها " حسن دياب " باشا، وأنجب ابنتيه «فاطمة» و«أم كلثوم» فى العوامة وكتب بها العديد من رواياته الشهيرة مثل «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف»، ولم يترك نجيب محفوظ السكن فى العوامة، إلا بعد سقوط طفلة تسكن بالقرب منه من إحدى نوافذ عوّامة والدها، فماتت غرقا، فترك النيل مكرهاً، وانتقل بعدها للإقامة فى حى العجوزة ولكن على النيل أيضا. عبقرى آخر كان يعشق النيل ويسكن العوامة رقم " 75 " ومكانها أمام النادى الأهلى، انه الفنان الكبير " نجيب الريحانى "، الذى ظل يداوم على البقاء بها بصفة دائمة ؛ حتى أصيبت بالتلف نتيجة عدم الصيانة، فأغلقها بعد ذلك. تعاتبنى بحنوٍ الحاجة «إخلاص» بأن الوقت داهمنا ولم تقدم لى واجب الضيافة، مؤكدة بصوت صادق أن أعود لزيارتها مرة أخرى كلما توفر الوقت، فشكرتها وأنا أودعها على باب العوامة، ليبتلعنى صخب الميدان وضجيجة، وتختفى معالم عوامتها من أمام عينى، فكلما ابتعدت يزداد شعورى بثقل أكتافى مرة أخرى وكأنها تحمل حجارة تؤلمنى وتجعلنى أشكو من أوجاعها طوال الوقت.