صدمتني الحرائق - وأنا خارج مصر - مرتين.. وبكيت في المرتين كثيراً.. في المرة الاولي كنت في ألمانيا، في بعثة لدراسة ادارة الصحف في معهد الصحافة في برلين منذ أول سبتمبر 1971.. وبعد أسابيع جاءنا الخبر الحزين: احتراق دار الاوبرا المصرية «القديمة إياها» التي انشأها الخديو اسماعيل، وحتي الان لا يعرف أحد حق اليقين من أحرقها!! وبكينا جميعاً نحن أعضاء تلك البعثة الصحفية الدراسية إلي ألمانيا.. فقد كانت لكل منا ذكرياته مع تلك الاوبرا خصوصاً عروضها صباح كل أحد.. بقروش معدودات في خمسينيات القرن الماضي وكأن هذه العروض كانت مخصصة للطلبة، عشاق الموسيقي والفن الاوبرالي.. وفي المرة الثانية كنت في أبو ظبي مدعوا لإلقاء محاضرة عن تاريخ أبو ظبي منذ 250 عاماً وكان المشاركون فيها اساتذة وبحاث من العديد من دول اوروبا وامريكا.. وبعض الدول العربية .. وفاجأني حريق المجمع العلمي المصري وانا في الطريق إلي أبو ظبي وللأسف كما قيد الحريق الاول ضد مجهول منذ 40 عاماً. سيقيد الحريق الثاني - وهو جريمة كبري - أيضاً ضد مجهول.. كما هو الحال في الجرائم الجماعية التي تتحرك فيها الجماهير، تماماً كما حدث في جريمة إحراق القاهرة في يناير 1952، فالجرائم الجماعية تشيع فيها، وتضيع المسئولية.. ولكن فؤاد باشا سراج الدين آخر زعماء الوفد - كان يرد كلما سئل عمن أحرق القاهرة -وكان هو وقتها وزيراً للداخلية - كان يرد: ابحث عمن له مصلحة.. تعرف السبب.. وتعرف المجرم. ويشبه حريق المجمع العلمي المصري ما حدث في جريمة إحراق مكتبة الاسكندرية القديمة، منهم من اتهم عمرو بن العاص باحراقها وجيشه العربي المسلم يحاصر الاسكندرية.. ولكن العقل يرفض ذلك.. اذ كيف بقائد اسلامي يفعل ذلك والاسلام يبدأ مهمة ويأمر المسلم بالقراءة والعلم.. وقيل إن المكتبة احترقت خلال الصراع بين كليوباترا او زوجها القيصر، والقيصر الجديد الذي جاء يطارد غريمه.. حتي مدينة حبيبته الاغريقية الاصل المصرية الهوي والهوية، كليوباترا.. وضاعت مسئولية حريق مكتبة الاسكندرية القديمة التي كانت منارة العلم والعالم، في العصر القديم واليها كان يحج علماء أوروبا كلهم.. ومن لم يزرها ويتعلم علي ايدي اساتذتها وينهل مما فيها من كنوز.. كأنه لم يعرف العلم ابداً.. وهكذا جاءت جريمة إحراق وليس حريق المجمع العلمي المصري بشارع قصر العيني، علي أيدي غوغاء أرادوا إطفاء نور العلم والمعرفة حتي تعيش مصر في عصر الظلام الدامس، الذي يتمناها من أحرق هذا الصرح العلمي العالي العظيم.. أو من أمر بهذه الجريمة الشنعاء.. فهذا المجمع العظيم أنشأه الجنرال بونابرت عندما جاء مصر فاتحاً ليجعلها قاعدة لامبراطورية فرنسية عظيمة في الشرق.. ولهذا أطلق علي حملته هذه التي بدأها عام 1798: حملة الشرق.. واختار لها مقراً قصر قاسم بك في حي السيدة زينب بجوار مدرسة السنية الان.. وتم انتخاب العالم الفرنسي الشهير مونج رئيساً للمجمع.. واختار لنفسه موقع نائب الرئيس.. ولم يقل انا القائد العام.. أنا حاكم مصر بل - كما جاء في سجلات المجمع - كتب امام اسمه: المواطن بونابرت!! أين هذا من حكامنا.. وفي هذا المجمع انكب مئات العلماء يبحثون ويسجلون ويكتبون أعظم ما عرفته مصر في عهدهم، وأخرجوا لنا الكتاب الشهير: وصف مصر.. وهو ليس كتاباً، بل موسوعة علمية، يا بخت من يراها.. ويقرأها.. وحوت جنبات هذا المجمع كل ما جاءت به حملة بونابرت وكل ما تركته.. وكل ما ضمته مصر من ذخائر العلم والعالم، حتي بعد أن أسس لها الملك فؤاد داراً جديدة في بداية عشرينيات القرن الماضي.. وهو المقر الذي احترق بفعل مجرم، هو أبو جهل الجديد.. وتعالوا نسأل: كيف مات عالم علماء مصر الدكتور محمود حافظ رئيس هذا المجمع العلمي الكبير.. ورئيس مجمع اللغة العربية، حقيقة الموت والحياة إرادة إلهية.. وحقيقة اخري ان هذا الرجل العظيم مات وقد تجاوز عمره قرناً كاملاً، أي 100 عام.. ولكن المؤكد ان الرجل مات كمداً وحزناً علي إحراق هذا الصرح الذي قل ان يوجد مثيله في العالم كله.. وهو في نظري يشبه احراق مكتبة الاسكندرية القديمة.. أقول مات كمداً وهو يشاهد نيران الجهل والحقد تلتهم هذا الكنز الذي «كانت» تملكه مصر.. وهو الرجل الذي عقد داخل هذا المجمع عدة اجتماعات منذ أيام قليلة. وتشهد صفحات جريدة الوفد أنني ومنذ اكثر من 20 عاماً كتبت سلسلة مقالات عن والد الدكتور محمود حافظ.. عن المناضل المصري حافظ دنيا ابن محافظة دمياط الذي شارك في ثورة 19 باسلوب مماثل لاسلوب يوسف الجندي في زفتي.. فقد أعلن حافظ دنيا استقلال بلدته فارسكور ورفع عليها علماً خاصاً ورفض الاعتراف بسلطان السلطان احمد فؤاد وبسلطان الانجليز وانفق علي هذه الثورة.. كل ثروته، وقاوم قوات الانجليز.. وكان المرحوم الدكتور محمود حافظ - ابن هذا المناضل العظيم- يبادرني بالقول أمام كل الاصدقاء: أهلا بمن أنصف أبي «الجنرال» حافظ دنيا إمبراطور فارسكور.. ورحم الله الراحلين: الاب المناضل الثائر.. والابن العالم الجليل الذي احترق قلبه وتوقف عن الحياة يوم أحرقوا المجمع العلمي، المصري العظيم..