تصنع التحولات السياسية التي تشهدها أنظمة الحكم في أكثر من دولة عربية أسباباً منطقية للاعتقاد أن السياسات الخارجية العربية تجاه الكيان الصهيوني سوف تشهد تحولات عميقة بدورها . يعود التبرير الجوهري لهذا الاعتقاد إلى الفهم السائد المتعلق بأداء السياسات العربية تجاه كل من الواقع المؤلم للقضية الفلسطينية والعجز العربي المؤسف أمام العنف “الإسرائيلي” . يقوم هذا الفهم على أن الجانب الأكبر من الحكومات المستبدة في الدول العربية ظلت تتبنى سياسات فاسدة تجاه هذين الأمرين، كانت نتيجتها أن وصلت القضية الفلسطينية إلى طريق مسدود لا يبشر بإقامة الدولة الفلسطينية، وأن ازدادت الاعتداءات “الإسرائيلية” على الحقوق الإنسانية للفلسطينيين بعد أن أجهزت على حقوقهم السياسية . إن امتداد فساد نظم الاستبداد العربية إلى سياساتها الخارجية تجاه قضية العرب المركزية وأيضاً إلى كيفية التعامل مع عدوهم الأول يجعل من المناسب القول إن تغيير الكيفية التي ينبغي على الدول العربية التعامل من خلالها مع الكيان الصهيوني يجب أن تكون واحدة من بين أهم التحولات الناتجة من الثورات الشعبية العربية . يتعين على الحكومات العربية الجديدة في كل من مصر وتونس وليبيا واليمن، ولاحقاً أيضاً سوريا، الاجتهاد في تبني سياسات خارجية جديدة ومختلفة تجاه القضية الفلسطينية و”إسرائيل”، تمثل إقلاعاً حقيقياً عن السياسات الخائبة التي كانت تنتهجها أنظمة مبارك وابن علي والقذافي وصالح والأسد في هذا الخصوص . إن حصول الشعوب العربية في هذه الدول على حقوقها السياسية المشروعة، من قبيل الحرية والعدالة والمساواة وغيرها من الغايات الإنسانية هو إنجاز ضخم، بيد أن استمرار إخفاق حكومات ما بعد الثورات في مساعدة الشعب الفلسطيني على استرداد جانب من حقوقه السياسية والإنسانية سوف يتسبب في الانتقاص من منجزات هذه الثورات الشعبية . كما أن استمرار عجز أنظمة الحكم العربية الجديدة عن تعديل موازين القوة بالكيفية التي يمكن أن تسمح بمواجهة نفوذ وتعنت “إسرائيل” ينذر بالإبقاء على جانب كبير من خطيئات السياسة الخارجية التي كانت قد أصرت أنظمة الحكم السابقة على اقترافها . إن الشعوب العربية الثائرة التي آمنت بحقوق الإنسان في الحصول على الغايات الإنسانية الكبرى، وسعت بأقوى عزم إلى إزالة أنظمة الحكم المتسلطة في دولها، كي تتخلص من إذلال الاستبداد وتتمكن من التمتع بالفضائل الأسمى في حياتها، سوف تجد نفسها عاجزة عن قبول استمرار الشعب الفلسطيني يرزح تحت وطأة جريمة الاحتلال “الإسرائيلي”، ويعاني كل أنواع الحرمان السياسي والاقتصادي، متعرضاً على الدوام لأقسى صنوف العنف الإنساني . بعد أن تنتظم مؤسسات التمثيل الديمقراطي في هذه الدول العربية، ينبغي على الشعوب أن تباشر مطالبة حكوماتها بتحقيق إنجازات ملموسة في خصوص مساعدة الشعب الفلسطيني للحصول على حقوقه الوطنية التي طال أمد استحقاقها . ندرك أن مهمة صياغة وتنفيذ سياسات عربية جديدة تجاه كل من المسألة الفلسطينية والكيان الصهيوني ليست بالمهمة السهلة، بل إنها ستواجه تحديين حقيقيين على الأقل . يتمثل التحدي الأول في عدم اكتراث تل أبيب كثيراً لإعطاء التحولات السياسية العربية الاعتبار الذي تستحقه، حتى الآن على الأقل . لقد صدرت من الكيان الصهيوني خلال العام الحالي تصريحات توحي بأن المسؤولين في تل أبيب يقدرون خطورة آثار الثورات العربية على الدولة “الإسرائيلية”، ولكن الواقع يشير إلى أن سياسات نتنياهو الحالية لا تبدو أنها تعبأ بالتغيرات العربية كثيراً . يتضح التجاهل “الإسرائيلي” خاصة في الإصرار على بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وكذلك في شن الهجمات العسكرية على الأهداف الفلسطينية في قطاع غزة . لا يبدو أن الحكومة “الإسرائيلية” تخشى في المرحلة الراهنة من أن يمسها امتداد الغضب الشعبي العربي ضد سياساتها الجائرة، وستشكل سياسات التعنت والاستفزاز “الإسرائيلية” محكاً حقيقياً بالنسبة إلى كفاءة مؤسسات الحكم العربية الجديدة، بكل أطيافها ومنطلقاتها السياسية . ويتجسد التحدي الثاني في سياسات واشنطن، التي ما تزال تستمر بدورها في تقديم المساندة السياسية الكاملة ل”إسرائيل” من جهة، ومعاداة المصالح الوطنية الفلسطينية بشكل صارم من جهة أخرى . على الرغم من اصطباغ كل أيام عام 2011 بغضب المزاج الشعبي العربي الثائر، فإن واشنطن قررت خلال هذا العام المجاهرة بممانعة طلب إعلان الدولة الفلسطينية الكاملة العضوية في الأممالمتحدة، واستخدمت نفوذها الدبلوماسي من أجل إجهاض هذا الاستحقاق المشروع . وفي معركة الرئاسة الأمريكية، ارتكس هذا الأسبوع مرشح الحزب الجمهوري نيوت غينغريتش، فوصف الفلسطينيين بأنهم شعب ملفق، وزعم أنهم يهدفون إلى تدمير “إسرائيل”، وأن الفرصة أمامهم للذهاب إلى العديد من الأماكن خارج أرض فلسطين . لم يكترث هذا المرشح الرئاسي لحقائق التاريخ، وقرر أن يتجاهل واقع الضغط الذي يشكله المزاج الشعبي الثائر في أكثر من دولة عربية في الوقت الراهن، فعمد إلى التصريح عن هذا الموقف المرفوض في كل الأوقات، والصادم في هذا التوقيت من الزمن العربي بالذات . من السذاجة تصور أن مجرد نجاح الثورات الشعبية العربية في إطاحة أربعة نظم سياسية وزعزعة نظام أسس خامس سيكون كافياً من أجل أن تضبط تل أبيب سلوكها العدواني على حقوق الفلسطينيين، أو أن تقرر واشنطن الإقلاع عن سياساتها العدائية تجاه مصالحهم المبدئية . ليس الأمر بهذه السهولة، وسوف يتطلب نجاح التحولات السياسية العربية في فرض التغييرات المطلوبة في سلوك كل من “إسرائيل” والولايات المتحدة أن تجتهد الحكومات العربية الجديدة في صياغة وتنفيذ سياسات خارجية عربية جديدة، وهي تحتاج في هذا الصدد إلى الحصول على مساندة أكبر عدد ممكن من بقية الدول العربية . نقلا عن صحيفة الخليج الإماراتية