من المسلمات التى لا جدال فيها حب الآباء لأبنائهم، فإذا ما تألم الأبناء تعذب الآباء وماتوا كمدا، لكن.. ماذا لو أقدم ابن على الانتحار.. وأنهى حياته بإرادته هربا من ظلم أبيه أو أمه.. قد يعجز العقل عن استيعاب كارثة كتلك، فماذا عسانا نفعل عندما يصدر تقرير رسمى من خط النجدة التابع للمجلس القومى للطفولة والامومة.. ليؤكد انتحار 12 طفلا خلال النصف الأول من 2016. ما الذى دفعهم إلى فعل كهذا وهم فى عمر الزهور لم يدركوا شيئا من دنياهم بعد سوى اللهو واللعب.. فهانت عليهم أنفسهم وهربوا من ذل الحياة إلى أحضان الموت. *أسباب الانتحار بين الأطفال تعددت أسباب الانتحار بين الأطفال فهناك طفل قد انتحر بسبب خوفه الشديد من عقاب والديه، وطفلة انتحرت بسبب إجبارها على الزواج المبكر، وهناك انتحار بسبب سوء الحالة النفسية وسوء معاملة الوالدين. ولكن ما هى الأسباب وراء استخدام الآباء للعنف بجميع أشكاله تجاه أبنائهم؟ وكيف يمكن لمجتمع تمارس فئة واسعة منه هذا العنف أن يواجه ظاهرة كتلك؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه فى السطور التالية. ربما تخطت كونها ظاهرة لتصبح كابوسا يؤرق كثيرا من الدول على مستوى العالم كما تعد جرس انذار وخطرا على مصر بشكل أكثر حدة، فقد تزايدت جرائم العنف ضد الأطفال بشكل ملفت، حيث يتعرض كثير من الأطفال للعنف بكافة أشكاله سواء كان جسديا أو نفسيا أو حتى معاملة سيئة وإهمالا متعمدا من قبل الوالدين أو المسئولين عن الطفل أو المجتمع المحيط، وقد يصل فى ذروته إلى الاعتداء الجنسى والاغتصاب والقتل فى بعض الحالات. *2284حالة عنف والقاهرة فى المرتبة الأولى ففى تقريره اعلن المجلس القومى للأمومة والطفولة، وقوع 2284 حالة عنف ضد الأطفال خلال النصف الأول من 2016، حيث تصدرت محافظة القاهرة المرتبة الأولى بنسبة 23%، ثم محافظة الجيزة بنسبة 15%، وجاءت الإسكندرية فى المرتبة الثالثة بنسبة 12%. وقد كان للذكور النسبة الأكبر من بلاغات العنف بنحو 69%، فى مقابل 31% للإناث، تعرض 155 حالة منها للعنف المدرسى كالاعتداء بالضرب أو التوبيخ، وكان منها 86 بلاغا بشأن المشكلات المدرسية التى تشكل خطرا على الأطفال. وفى اشارة خطيرة أكد التقرير وجود 120 حالة اعتداء جنسى على الأطفال، منها 11 حالة داخل الأسرة، و26 حالة بالمدرسة، و59 حالة تم الاعتداء فيها على أنثى، و61 حالة للذكور. فمن منا ينسى قضية «زينة» والتى هزت المجتمع المصرى بأسره والتى كانت أصغر ضحية للاعتداء الجنسى والقتل معا. وقد تتخذ ممارسة العنف على الأطفال أشكالا أخرى فقد تلقى خط النجدة 44 بلاغا بشأن اختفاء أطفال، و23 بلاغًا لاختطاف أطفال، وتعرض الأطفال إلى 182 حادثاً، منها ماس كهربائى أو سقوط فى «بالوعة»، كما تعرض 67 طفلاً إلى إهمال طبى، و79 آخرون تعرضوا لحالات غرق معظمها بسبب الإهمال الأسرى، وتصدرت محافظة المنوفية ب21 حالة، كما تعرض الأطفال إلى 127 بلاغا لحوادث طرق تصدرتها محافظتا البحيرة وسوهاج. *أسباب ممارسة العنف ضد الأطفال وللعنف الواقع على الأطفال العديد من الأسباب منها: المشكلات العائلية وتعتبر ذات تأثير سلبى مباشر على الطفل، كذلك وقوع حالات الطلاق، فالطفل الذى ينفصل والداه يتملكه إحساس بالضياع، وقد يتعرض للتعنيف من قبل زوج أمه أو زوجة أبيه. فقد رصد المجلس فى تقريره 285 حالة ترجع أسبابها للمشكلات الاسرية، منها 80 حالة بسبب إشراك الأطفال فى النزاعات الأسرية، التى تسببت فى بعض الأحيان فى مشاكل نفسية للأطفال أدت إلى سوء سلوكهم، كما تسببت 11 حالة من بلاغات العنف الأسرى فى إصابات بالغة، و30 حالة منهم تسببت فى وفاة الطفل، بعضها كان قتل عمد والبعض كان عنفا بدنيا أدى إلى الوفاة. *فتش عن الفقر الدكتور "أحمد سالم" أستاذ فلسفة الاجتماع بجامعة طنطا- يرى أن العامل الاقتصادى سبب رئيسى لتلك الظاهرة، فهى ترتبط ارتباطا مباشرًا بالطبقات التى تعانى الفقر فى المجتمع، وهو ما يضطر بعض الأسر للدفع بأطفالها للعمل فى مهن تنتهك طفولتهم وتجعلهم عرضة للعنف من قبل صاحب العمل أو من المجتمع الذى فرضت عليهم مواجهته مبكرا، وهو ما استتبع بدوره انتشار ظاهرة أطفال الشوارع الذين يصل عددهم لما يقارب المليون طفل لا يجدون من يرعاهم ويؤويهم، فكانوا لقمة سائغة لكافة أشكال العنف وأنواعه، ونتيجة حتمية لعدم اهتمام الدولة الاهتمام الكافى واللازم بالأحداث. أما العنف الذى يواجهه الطفل فى البيت والمدرسة فقد أرجع «د.سالم» سببه إلى نشوء فجوة وهوة عميقتين بين جيل الآباء وجيل الأبناء، ذلك أن طريقة استيعاب الأبناء وتعاطيهم للأمور من حولهم تسبق بكثير تلك الطرق التى نشأ عليها آباؤهم، وهو ما جعل هناك صراعا معلنا وخلق أزمة تكيف بين جيلين يرى الأبناء فيه حقهم فى ممارسة استقلالهم وحريتهم بعيدا عن سطوة الآباء، بينما يحاول جيل الآباء فرض هيمنته وسطوته باعتباره ينتمى لمجتمع ذى نزعة أبوية فى المقام الأول ويرى أن فرض السلطة الأبوية على الأبناء من البديهيات التى تدعمها قدرة الأب الإنفاقية مما يجعله يمنح نفسه حرية قهر رغبات أبنائه ومحاولات فرض عاداته وتقاليده الخاصة عليهم، ونتيجة لعدم استجابة الأبناء لتلك المحاولات يضطر الآباء هنا للجوء للعنف كوسيلة يائسة لممارسة سطوتهم وفرض معتقداتهم. وهو ما يبدو أكثر وضوحا فى المجتمعات الريفية، تلك المجتمعات التى نشأ بها الآباء بين عادات وتقاليد أكثر تشددًا والتزامًا، بينما يعيش أبناؤهم فى فضاء افتراضى خاص بهم غيّر كثيرًا من مفاهيمهم وجعلهم أكثر جنوحا للتمرد على آبائهم فتكون ممارسة العنف عليهم هى النتيجة المتوقعة. *تغيير البنية الثقافية للمجتمع.. هنا يكمن الحل وعن الحلول المقترحة لتلك الظاهرة يرى «د.سالم» أن المشكلة برمتها إنما ترجع إلى ثقافة المجتمع السائدة والتى لا تمنح لأفراده حق إبداء الرأى ولا تجنح للنزوع الفردى فى تعليم الأبناء الاستقلالية، وهو ما يستوجب ضرورة تغيير البنية الثقافية للمجتمع بأكمله بدءًا بالآباء ومحاولتهم منح قدر من الحرية لأبنائهم وتعليمهم قيم التسامح والاستقلالية. وهو أيضا ما يجب أن توفره منظومة التعليم بدورها حتى لا تنفصل المبادىء التى يرسخها البيت عن تلك التى يرسخها التعليم. *دور المؤسسات المعنية ووسائل الإعلام فيما يؤكد «د.محمد المفتى» أستاذ المناهج والعميد الأسبق لكلية التربية جامعة عين شمس، أن ممارسة الاباء والمجتمع أسلوب العنف على الأطفال يأتى نتيجة الجهل بالأساليب التربوية والنفسية السليمة فى معاملة الأطفال، مما يؤدى إلى انسحاب ذلك العنف على المجتمع بأسره فيما بعد، فعندما يكبر هؤلاء الأطفال يتولد لديهم شعور بأنهم قد تعرضوا لنوع من الظلم، مما يدفعهم لأن يصبوا غضبهم على المجتمع من حولهم فى ممارسات عنيفة تكون عن قناعة بأنه بذلك يسترد حقه ممن ظلمه. ويرى «المفتى» أن الحل يكمن فى ضرورة توعية الآباء ومجتمع المدرسة وكل من له تعامل مباشر مع الطفل، بالأسلوب التربوى الأمثل فى المعاملة وضرورة اتباع طريقة الإقناع بالحسنى والبعد عن استخدام العنف الذى كثيرًا ما تكون نتيجته عكسية، فينشأ الطفل عدوانيا تجاه المجتمع بأسره. ويستطرد «د.المفتى» قائلا إن تلك التوعية إنما تنصب فى المقام الأول على المؤسسات المعنية بحقوق الطفل مثل اليونيسيف والمجلس القومى للطفولة والأمومة، وذلك بإيجاد قنوات اتصال بينها وبين وسائل الإعلام المختلفة لنشر الوعى لدى الآباء والمعلمين بشأن معاملة الطفل وتربيته التربية المثلى. *ثقافة الضرب وإعادة إنتاج أجيال غير سوية فيما كان للدكتور «سعيد صادق» استاذ الاجتماع السياسى بالجامعة الأمريكية رأى آخر، فهو يرى أن الأصل فى انتشار ظاهرة العنف ضد الأطفال إنما يرجع إلى أن جيل الآباء قد نشأ على ثقافة الضرب فصار هو الأسلوب السائد والذى يعاد استخدامه مع جيل الأبناء، وقد يصل الأمر بالأبناء إلى اللجوء للانتحار هربا من عذاب لا يستطيعون تحمله، وللأسف فإن ما يعلن من إحصائيات لحوادث انتحار الأطفال قد لا يكون معبرا عن الواقع الحقيقى فإن هناك الكثير من الحالات التى يتستر عليها الأهل خوفا من المساءلة أو الفضيحة. فى حين يرجع «صادق» أسباب العنف فى المدارس واستخدام الضرب كوسيلة لزجر الطفل إلى كون المعلمين غير مؤهلين تربويا بشكل يجعلهم قادرين على استيعابه وتوجيهه بأسلوب صحى. ويضيف «صادق» مردفا أن ذلك التطرف فى عقاب الطفل سواء كان من قبل الأهل أو المدرسة أو غيرهما إنما يعيد إنتاج العنف المنزلى على مستوى الأجيال القادمة مما ينتج فى النهاية مجتمعا يتسم أكمله بالعنف. «رودينا» البراءة المعذبة «رودينا» طفلة لم تتخط عامها الأول بعد، تآمرت ضدها قسوة الظروف والقلوب، فقد ولدت لأبوين انفصلا عن بعضيهما فتخلى الأب عن مسئوليته وعن بشريته، وفر هاربا ولم تجد الأم من يعينها على شظف العيش بعد أن عجزت عن الإنفاق على طفلتها فاضطرت لتركها لعمها وزوجته التى تجرد قلبها من أى رحمة وضاق صدرها بطفلة لا ذنب لها مارست على جسدها الضعيف كل أنواع العنف وسولت لها نفسها البغيضة أن تقرر التخلص من ذلك الملاك،فوجدتها امرأة ملقاة داخل حاوية للمهملات بمنطقة شبرا، وكانت تعانى كسرا فى الساق اليمنى والخصر وشرخا بسيطا فى العمود الفقرى. ولم يستطع الأطباء تحديد سبب الإصابة، إلا أنهم أجمعوا على أن الطفلة قد ارتطمت بشىء، أو وقع عليها شىء ثقيل. وانتهت مأساة «رودينا» بعد أن انتشرت صورها وحكايتها على مواقع التواصل الاجتماعى فتعرفتها أمها وهرعت لاستلامها. «أحمد» مأساة انتهت بالانتحار كانت سنواته الاثنتا عشرة تحلم بحضن أبيه.. كم ظل يُمنى نفسه النقية بحب أبوى طالما حرم منه، لكن أباه ابدا لم يشعر بحرمانه يوما، وراح يصب ضيقه بضغوط عمله على جسد الصغير بل ويتفنن فى إيذائه جسديا ونفسيا. الشجرة التى طالما جلس تحتها يشكو إليها ذله وقسوة أبيه.. كانت دوما وسيلة عقابه، فإذا ما ارتكب أى خطأ لم يُرض أباه جره جرا وربطه إلى تلك الشجرة ثم.. ثم يظل يجلده بلا رحمة حتى يفقد الوعى. لم يدر أبوه أنه لا يجلد جسد ابنه فحسب بل إنه يجلد روحه ويخلق بداخله كرها لحياته التى لم يعشها بعد. ولم يستطع صبر الصغير «احمد» على تحمل تلك العذابات.. فقرر أن يتخلص من حياته نهائيا ويغادر دنيا لا يعرف ساكنوها معنى للشفقة. وكان السخان الكهربائى هو معبر الأمان من دنياه، أمسك بسلكه الكهربائى بعد أن أزال عنه العازل البلاستيكى وانتحر. *أطفال الشوارع أصبحت ظاهرة أطفال الشوارع بمثابة قنبلة موقوتة قد تنفجر فى وجه المجتمع بأسره لما تمثله من بيئة مناسبة لافراز المجرمين والارهابيين فى المستقبل القريب. وقد ثار اختلاف حول تعريف «أطفال الشوارع»، حيث يقول البعض إن طفل الشارع هو الذى يعيش بصورة دائمة فى الشارع بدون روابط أسرية، ويقول اخرون ان طفل الشارع هو الذى يعمل فى الشارع بين إشارات المرور، ويمارس التسول. وتضاربت الاحصائيات حول أعداد أطفال الشوارع، فقد قسمت منظمة «يونيسف» أطفال الشوارع بمصر إلى 3 فئات، الفئة الأولى «قاطنون فى الشارع»، وهم الذين يعيشون فى الشارع بصفة دائمة، والفئة الثانية «عاملون فى الشارع»، وهم أطفال يقضون ساعات طويلة يوميًا فى الشارع فى أعمال مختلفة، مثل «التسول»، أما الفئة الثالثة «أسر الشوارع»، وهم أطفال يعيشون مع أسرهم الأصلية فى الشارع، وتبعًا لهذا التعريف قدرت اليونسيف عدد أطفال الشوارع فى مصر بنحو 2 مليون طفل. بينما أعلنت وزارة التضامن الاجتماعى عن نتائج حصر اطفال الشوارع بمصر منتصف 2015 حيث توصلت إلى أن عدد الأطفال الذين ليس لديهم مأوى يبلغ 16 ألفا و19 طفلاً موزعين على محافظات الدولة، واستثنت الدراسة أطفال الشوارع الذين يعودون إلى منازلهم مساء.. وأظهرت الدراسة أن نسبة 88 بالمئة منهم يتمركزون فى الحضر و12 بالمئة فى القرى، وتبلغ نسبة الذكور منهم 83 بالمئة والإناث 17 بالمئة، ونسبة 86.9 بالمئة منهم أصحاء بينما يتوزع الباقى على مختلف الإعاقات.