في يومي الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر نوفمبر الماضي، أجريت الجولة الأولى من المرحلة الأولى لأول انتخابات برلمانية مصرية بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير. وتكتسب هذه الانتخابات أهميتها في أن أعضاء البرلمان القادم هم المنوط بهم اختيار الجمعية التأسيسية التي تقوم بإعداد الدستور الجديد. وقد أفرزت هذه التجربة مجموعة من الايجابيات، يأتي على رأسها المشاركة الواسعة في عملية الاقتراع، والتي وصلت إلى نسبة 62%، وهي أكبر نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات البرلمانية في مصر. وعلى حد تعبير رئيس اللجنة العليا للانتخابات المستشار «عبد المعز إبراهيم»، فإن هذه النسبة لم تصل إليها حتى الانتخابات المزورة التي دأب النظام البائد على إجرائها. ولكن، وفي المقابل، ظهرت بعض السلبيات التنظيمية والإدارية، لعل على رأسها الطوابير الطويلة أمام لجان الاقتراع، وسعة الدوائر الانتخابية وعدم اتساق بعض دوائر القائمة مع دوائر الفردي، وتأخر وصول بعض القضاة إلى لجان الاقتراع، وتأخر وصول أوراق الاقتراع في بعض اللجان، ووجود بعض أوراق الاقتراع غير المختومة، وضيق وعدم ملائمة بعض أماكن الفرز. وبعيدا عن حديث الايجابيات والسلبيات، فقد أسفرت الانتخابات عن السيطرة الكاسحة للأحزاب الإسلامية، بحيث جاء حزب الحرية والعدالة (الذراع السياسية لحركة الأخوان المسلمون) في المركز الأول، يليه حزب النور السلفي. وبإضافة نسبة الأصوات التي حصل عليها حزب الوسط، بلغ مجموع عدد الأصوات التي حصلت عليها الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية حوالي 65%. وبعد أن صار الصراع بين الإخوان والسلفيين، أعتقد أن الإخوان المسلمون لم يعد يكفيهم مجرد رفع شعار «الإسلام هو الحل»، وإنما ينبغي أن يبرزوا أوجه اختلافهم وتباينهم عن التيارات السلفية. وأعتقد أن الإخوان المسلمون كانوا يفضلون أن تكون المواجهة مع التيارات الليبرالية، فهي أسهل لهم بكثير من مواجهة السلفيين. أما الأحزاب الليبرالية، فقد منيت بهزيمة نكراء. وفي اعتقادي أن ذلك يرجع بصفة أساسية إلى العزلة شبه التامة التي عاشت فيها الأحزاب الليبرالية وعدم نزولها إلى الشارع، بحيث اكتفى رموز التيار الليبرالي بالظهور في البرامج التليفزيونية وعلى صفحات الجرائد، تاركين الساحة تماما للأحزاب الإسلامية التي أجادت استغلال العمل الاجتماعي والعمل الدعوي لأغراض سياسية. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك في مقال لنا بعنوان «حادث المنصة لا يزال حاضرا»، والمنشور في بوابة الوفد الالكترونية، بتاريخ العاشر من أغسطس 2011م، حيث نبهنا في نهاية المقال إلى أن القوى الليبرالية «لازالت منغلقة على نفسها، مبتعدة عن الجماهير، ولاسيما في المناطق الريفية والصعيد. فالكثير من رموز التيار الليبرالي يختزلون العمل السياسي في البرامج التليفزيونية والمؤتمرات الصحفية. وأدمنت ائتلافات شباب الثورة الاعتصام في ميدان التحرير، دون أن يتحرك أفرادها تجاه الأغلبية الصامتة. بل أن هؤلاء راحة يطلقون التصريحات المتكررة عن نسبة الأمية الكبيرة في الشعب المصري، والتي تبلغ في بعض التقديرات 40%». وقد أكدت حينها أن ذلك ليس عذرا، وأن الأمي ليس شخص منعدم التفكير، غير قابل للإقناع، وإنما هو شخص يحتاج إلى طرق مختلفة في التعامل معه تقوم بشكل أساسي على الاتصال المباشر واستخدام لغة بسيطة للخطاب، بعيدا عن بعض الألفاظ المعقدة التي تترد كثيرا هذه الأيام مثل «الدولة المدنية» و«المبادئ فوق الدستورية» و«المبادئ الحاكمة للدستور». وللتدليل على صحة ما نقول، يكفي الإشارة إلى أن بعض رموز التيار الليبرالي، ممن يجيدون الاختلاط بالجماهير، قد نجحوا فعلا في الانتخابات من الجولة الأولى، مثل الأستاذ «مصطفى بكري»، أو حققوا تفوقا ملحوظا وكانوا على وشك النجاح من الجولة الأولى مثل الصحفي المحترم «محمد عبد العليم داود». وللتدليل على صحة ما نقول، نذكر أيضا دائرة «الحامول» بمحافظة «كفر الشيخ»، والتي سيطر عليها لعدة دورات النائب الناصري «حمدين صباحي»، ولم يترك مقعده البرلماني سوى في عام 2010م، ونتيجة للتزوير المفضوح الذي مارسه النظام البائد في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي كانت سببا مباشرا لاندلاع الثورة. وتجدر الإشارة إلى أن النائب «حمدين صباحي» لم يرشح نفسه هذه المرة، وذلك بسبب إعلانه نيته الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية. وهكذا، ومع غياب النائب «حمدين صباحي» عن دائرة «الحامول»، كانت الفرصة سانحة أمام الأحزاب الدينية للسيطرة على الدائرة. وأكاد أعتقد جازما بأنه لو كان النائب «حمدين صباحي» مرشحا لتمثيل الدائرة في البرلمان، ما أفلح أحد في زحزحته عن مكانه الذي شغله لدورات عديدة. ومن أبرز ما أسفرت عنه الانتخابات هو سقوط العديد من شباب الثورة، الذين رشحوا أنفسهم على المقاعد الفردية، مثل «عبد الرحمن فارس» و«أسماء محفوظ». والاستثناء الوحيد في هذا الشأن هو الدكتور «مصطفى النجار» مؤسس حزب العدل، والذي نجح في الوصول إلى جولة الإعادة في مدينة نصر، وحيث تفوق على المرشح السلفي الشيخ «محمد يسري» بأصوات تزيد على العشرين ألف صوت. ولقد كان مقززا أن تلجأ التيارات الدينية إلى وسائل ممقوتة في الدعاية لمرشحها، فوزعوا مطبوعات تزعم كذبا بأن الدكتور «مصطفى النجار» هو مرشح الكنيسة ووجهوا نداء إلى الناخبين بالدائرة، يقولون فيه «لا تخذل الإسلام في الإعادة بين العالم الجليل الدكتور محمد يسري ومرشح الكنيسة مصطفى النجار». وهكذا، اختزل هؤلاء الإسلام في شخص الدكتور «محمد يسري»!!! ولعل ما يدعو للعجب أن ينجح من قال عن الديمقراطية أنها كفر وحرام، بينما رسب من ناضل من أجلها. ولعل ما يدعو للأسى حقا أن ينجح من قال قبل سقوط نظام «مبارك» أن شباب الثورة هو شباب أهوج يحركه الانترنت، بينما يرسب من نزلوا إلى ميدان التحرير منذ اليوم الأول لثورة 25 يناير، وواجهوا جبروت ورصاص الشرطة دون خوف. وفي الختام، أرجو ألا يتملك اليأس من هؤلاء الشباب الطاهر، الذين يعتبرون – في اعتقادي – أنقى من هم في الساحة السياسية الآن. كما أتمنى أن يعلموا أن مشوار النضال طويل، ولم ينته بسقوط النظام البائد، وإنما يبدأ النضال الحقيقي بالمشاركة في عملية بناء المجتمع الجديد. ولكن، كل ما أرجوه ألا يتشبث هؤلاء بميدان التحرير، وأن يتجهوا إلى الاختلاط بالجماهير. ولا أدري لماذا قفزت إلى ذهني مسيرة الجنرال «شارل ديجول». إذ أن هذا السياسي والجنرال الفرنسي ينسب إليه الفضل في تحرير فرنسا من قبضة النازي. وعندما سقطت فرنسا في يد النازي، أطلق عبارته الشهيرة التي صارت مثلا: «لقد خسرنا معركة ولكن لم نخسر الحرب». وشارل ديجول هو من قاد عملية تحرير فرنسا انطلاقا من عاصمة الضباب «لندن»، حيث أسس جيش فرنسا الحرة. ولكن وأثناء رئاسته للحكومة المؤقتة، كان يزاول الحكم بعقلية رئاسية، فبدأ التذمر في صفوف الشعب الفرنسي، الأمر الذي دعا شارل ديجول إلى إجراء استفتاء عام أسفر عن اختيار الشعب الفرنسي لحكم نيابي، فاستقال شارل ديجول من منصبه سنة 1946م، واعتزل السياسة. ولكن «ديجول» عاد بعد ذلك إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية في 8 يناير 1959 بعد انتخابات عامة، ثم أعيد انتخابه مرة أخرى في 19 ديسمبر 1965م. وهكذا، عاد شارل ديجول إلى رئاسة الجمهورية الخامسة، حيث حكمها لفترتين رئاسيتين متواليتين. ولعل شباب الثورة يستخلصوا العبرة والدروس من مسيرة «شارل ديجول»، ويدركوا أن الرسوب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ليس نهاية المطاف، المهم أن يدربوا أنفسهم على العمل السياسي وأن يخبروا دهاليزه وأساليبه. ----------- أستاذ القانون الجنائي المساعد بجامعة القاهرة