هناك في قلب الصعيد وهنا في الدلتا ناس تعرف حق الوطن، لاتعبأ بمن كان مسلما ومن كان مسيحيا، يجسدون بحق مقولة الدين لله والوطن للجميع.. بينهم ترى العمدة مسيحيا وشيخ الخفر مسلما.. العمدة المسيحي يحكم بالشريعة السمحاء بين المسلمين، ويرتضون به حكَما، لأنهم ببساطة أناس لم تتلوث ضمائرهم ولم تزغ عقولهم. في مصر الآن 74 عمدة و393 شيخ بلد مسيحيا.. وراء كل عمدة منهم شباب مسلم دفعوا به إلى صدارة المشهد القروي، حبا في شخصه وطمعا في عدله، لم تتأخر وزارة الداخلية عن اعتماد تلك الاختيارات الشعبية، فهو اختيار يبعد بمسافة وطنية كافية عن الطائفية والعنصرية والبغضاء، يؤشر على أن الناس في هذه القرى واعون ولا تخيل عليهم أكاذيب الداخل والخارج، يحبون عمدهم المسيحيين على الفطرة، والعمد المسيحيون يحتفظون بالمصحف جنب الإنجيل ، ولا تستغرب إن رأيت أحدهم يحمل مسبحة في يده أو يقول للمسلم "صلّي على النبي" ويستدير بوجه للمسيحي قائلا "مجد سيدك".. إنه حضرة العمدة .. المسيحي. شيخ البلد مسيحي والخفر مسلم ففي نزلة العمودين بمركز سمالوط بالمنيا نرى عمدة القرية فايز فرحات مسيحيا، أما شيخ الخفر فمسلم بينما شيخ البلد مسيحي ، ثلاثتهم على قلب رجل واحد، كل مشاكل القرية التي لا تختلف عن أية قرية صعيدية محصورة في الثأر وليست الفتنة الطائفية. يقول العمدة الذي يعتبر أهل القرية ،مسلمون ومسيحيون، كلمته سيفا على الرقاب: القرية ليس بها خلاف طائفي فالعلاقة بين المسلم والمسيحي لن تنقطع رغم الأحداث الأخيرة، فنحن نعيش معا، ودى بلدنا ومش ها نسيبها لا مسلمين ولا مسيحيين ، فالنيل يجري في دمائنا جميعا كما أننا نستأمن بعضنا على أرواحنا وأموالنا. وعن طبيعة المشاكل التي تحدث في القرية يقول فرحات إن معظمها عبارة عن خلافات على المباني القديمة سواء بالنسبة للمسلمين وبعضهم أو المسيحيين وبعضهم أو بين المسلمين والمسيحيين، وأيضا مشكلات على حدود الأراضي الزراعية مشيرا لوجود لجنة مصالحات تشاركه في حل جميع المشكلات، أعضاؤها من مثقفي القرية وعقلائها يسارعون باحتواء أية مشكلة قبل أن تستفحل، وأنه بالفعل تم احتواء مشاجرة بين مسلمين ومسيحيين، وأيضا تم تقديم الكفن ودفع الديّة بحضور المسئولين بعد مشاجرة أخرى وقعت بين مسيحي ومسيحي أدت إلى مقتل أحدهما نتيجة لخلاف على شراء منزل، وذلك حتى لا تثأر العائلتان المسيحيتان من بعضهما ويدخل الجميع في حلقة الثأر التي لا تنتهي. المسلمون يستجيبون أكثر وفي قرية الطيبة بنفس المركز بالمنيا التي يمثل المسيحيون 75% من سكانها ، بينما يصل عدد المسلمين فيها 25% فقط، تجد عدد الكنائس هناك سبع بينما لا يوجد إلا ثلاثة مساجد فقط. العديد من الأحداث مرت على طيبة وهددتها بشدة، ولكن حكمة العمدة صاروفيم بسطوروس مررتها بسلام. صاروفيم تولى العمدية عام 1964 ومؤهلاته كما يؤكد هي خبرته في الحياة وحب الناس المسلمين قبل المسيحيين. عن التوترات التي شهدتها القرية يقول: عام 2008 قتل مسيحي على يد مسلم، كانت معركة وعيارا طائشا قد أصاب القتيل، ولكن الأمر لم يكن متعمدا ورغم ذلك حدث توتر شديد في علاقة المسلمين بالمسيحيين، وطلب الأمن عمل جلسة كالعادة التي تجري في مثل هذه الأمور وتقديم كفن، إلا أنني رفضت اتهام المسلم و رفضت تقديم كفن واحد، وطلبت أن يقدمه 20 شابا من القرية 10 مسلمين ومثلهم مسيحيين لأنه قتيل القرية وتشيله الطيبة كلها، وكان هذا نموذجا أعجب المسئوليين وطالبوا بتعيمه في قرى أخرى. وبسؤاله عن موقف المسلمين منه أجاب: المسلمون في القرية يستجيبون لى ويمتثلون لطلباتي وما أحكم به عليهم بنسبة 90%، أما المسيحيون فيستجيبون بنسبة 40% فقط وكل القيادات في المحافظة والناس يعلمون هذا الكلام. ميراث المسيحيين على الشريعة الإسلامية وبرغم من أن قرية صفت اللبن بالمنيا قد شهدت ثلاثة أحداث طائفية ، انتهت بمقتل مسلم على يد مسيحي والثانية قتل فيها مسيحي ، نجد رجائي توفيق خليل ،عمدة القرية، يصف ناس قريته بأنهم مسالمون ، ولا ينكر أن أخطر المشاكل التي يواجهها كعمدة هي المشكلة الطائفية، لأنها في رأيه من الممكن أن تتسع ولا تتوقف وهنا مكمن الخطورة. ولمواجهة هذا الخطر قام العمدة، الحاصل على دبلوم تجارة، بتشكيل لجنة من المثقفين من مسلمين ومسيحيين مكونة من 20 فردا، حرص على ألا يكون بها رجال دين حتى لا تأخذ الطابع الديني، مهمتها حل المشكلات العامة وعمل لقاءات تثقيفية وتنويرية للتماسك الاجتماعي والوحدة الوطنية، وقد أتاحت على حد تعبيره لأبناء القرية الحوار والنقد البناء وتقريب وجهات النظر، الأمر الذي ساعد كثيرا على تخطي أزمة القديسين الأخيرة فلم يحدث أى توتر بين المسلمين والمسيحيين بالقرية، بل على العكس قام شباب من المسلمين بزيارة جيرانهم والأخذ بخاطرهم. وعن مشاكل القرية يقول إن مشكلة الميراث تأتي في الأهمية بعد المشكلة الطائفية، خاصة بالنسبة للمرأة التي يضيع حقها بسبب التقاليد البالية، مشيرا إلى أن أغلب المسيحيين في القرية يمشون حسب الشريعة الإسلامية في موضوع الميراث " للذكر مثل حظ الانثيين" وقليل منهم يوزع بالتساوى بين الرجل والمرأة. آية الكرسي في دوار القبطي وداخل دوار إميل نجيب شنودة،عمدة قرية كفر سليمان مركز السنطة غربية، أول ما يسترعي انتباهك لوحة مكتوب عليها آية الكرسي معلقة في مكان بارز يتبارك بها شنودة. إميل هو العمدة القبطي الوحيد داخل محافظة الغربية، تولى العمدية نزولا على رغبة أبناء القرية الذين كانوا يستدعونه في مجالس عرفية وجلسات الصلح وهوما منحه المصداقية . يقول شنودة معلقا: المثير أن أبناء القرية المسلمين هم الذين طالبوني بالترشح وأبدوا استعدادهم بإرسال فاكسات للجهات المسئولة لتأييدي. ويتابع : عندما تعرض على مشكلة بين مسلم ومسيحي أستبعد هوية كل طرف ، فالحق له طريق واحد، لذا أجلس مع كل طرف منفردا لأستمع منه ثم أعقد مواجهة بينهما لاستيضاح الأمور وإعطاء كل ذي حق حقه ولم يحدث أن خرجنا من المجلس إلا والطرفان متراضيان. وعن علاقته بالمسلمين يؤكد أن علاقته بشيخ البلد المسلم أقوى من علاقته بنظيره المسيحي ، لأن معياره في العمل الاجتهاد والتفاني وليس الديانة. القرية بها مسجدان وكنيسة واحدة، ورغم أن تعداد المسيحيين 60% من سكان القرية إلا أنهم لم يطلبوا بناء كنيسة جديدة لأن كنيسة العذراء تكفي الصلاة والاحتفالات ولا حاجة بهم لكنيسة ثانية. الطريف أن مسجد الرحمة يقع في شارع الشهيد أبانوب الذي يقطنه الأقباط ولا يوجد به مسلمون ولم تحدث مشكلة على الإطلاق. شابط وتلابط ومتحرمش! إيفا هابيل .. ثاني عمدة سيدة في مصر ، وأول عمدة سيدة في الصعيد ، وأول امرأة قبطية تتولى منصب العمدية من ضمن عشرين عمدة قبطيا في قرى ونجوع مصر، نالت هذا المنصب بعد منافستها لخمسة رجال من بينهم شقيقها الوحيد.. ورثت العمدية عن والدها ومن قبله جدها في كوم بوها التابعة لمركز ديروط بشمال محافظة أسيوط ، تحكم بين الناس بالعدل مسلمين وأقباطا.. كلهم عندها سواء. وجدناها نائمة في أمان تام على دكة أمام منزلها الذي لا يبعد كثيرا عن الدوار المحتوي على السلاحليك الخاص بسلاح الخفراء. تسترجع إيفا ذكريات بعينها فتقول إنه قبل الإعلان عن تعيينها كعمدة حلمت بأنها ترتدي جلباب والدها وسألته عن رأيه فيها فقال إنها مليحة وهي ترتدي الجلباب البلدي. تحدثك بهدوء ولباقة فهي محامية درست القانون والشريعة الإسلامية وأثناء حديثها تقف فجأة لتعطي أوامرها للخفراء بكل حزم. تقول العمدة: عملي كمحامية جعل علاقتي بالناس قوية من خلال الاستشارات القانونية التي جعلتني ملمة بكل مشاكل القرية وعلى وعي تام بكيفية التصرف مع من يعملون بمبدأ " شابط وتلابط ومتحرمش".. وهو مثل معروف في القرية لمن يدخلون في صراعات ليس لهم فيها أى حقوق للخروج بأي مكسب. ولأن القرية بها 10 آلاف قبطي وألفين من المسلمين .. لا نجد بها سوى مسجد واحد وخمس كنائس تمثل كل الطوائف المسيحية، وجميع أهالي القرية يتشاركون الأفراح والأحزان فالجميع يعيشون الحياة سويا بحلوها ومرها. تصف إيفا تعاون المسلمين معها قائلة: إمام المسجد شيخ فاضل لا يتأخر عن السؤال عن كل شخص في القرية ويساهم في حل المشاكل بين المسلمين والأقباط، وعندما تحدث مشكلة أنتظره حتى يأتي ويحلها معي. إخوات في الرضاعة وفي قرية يوسف عوض بالدقهلية قابلنا أصغر عمدة على مستوى الجمهورية "طارق شحاتة حنا " مواليد 1965 حصل على بكالوريوس الزراعة وتولى منصبه بالتعيين بعد وفاة والده عام 1996 . وبالرغم من أنه ليس أكبر أشقائه إلا أن قربه من الناس وحبه للنشاط الاجتماعي جعله يتولى العمدية ثلاث مرات على التوالي لثقة 8000 نسمة به ،هم أهل القرية نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين. قبطيته لم تمنعه من أن تكون الشريعة الإسلامية مرجعيته في حل مشاكل المسلمين وأحيانا في حل مشاكل الأقباط خاصة الميراث، لأحكام مجلسه قوة نفاذ تجعل الأهالي من المسلمين والمسيحيين لا يلجأون للقضاء . عن علاقة المسلمين والمسيحين بالقرية يقول: العلاقة بينهما مختلفة عن أى قرية أخرى، فهى أكبر من كونهم متشاركين في الجيرة والزراعة لكنهم انصهروا في المحبة والود حتى أن معظم أهالي القرية من الأقباط رضعوا في الصغر من أمهات مسلمات ، فأصبح المسلمون والأقباط بالقرية إخوات في الرضاعة. نقلا عن مجلة المصور( بتصرف)