بدأ مشوار تعليمي بمدرسة الأقباط وتحتفظ ذاكرتي بصور من حنان أبلة أنجيل وطيبة سمير أفندي مدرس الرسم ودقة الأستاذ جميل مدرس الحساب، وكلهم مسيحيون في المرحلة الإعدادية ثم الثانوية كونت صداقات استمر بعضها حتي الآن، تماما كما جري أثناء الدراسة الجامعية وما بعدها، وكان يفصل منزلنا عن منزل قدسي أفندي وصليب أفندي جدار لا يزيد سمكه علي ربع متر، كان كلاهما يعمل في الصاغة، ويراسلنا الأبناء من استراليا كل حين، هذا ونصف سكان العمارة التي أعيش فيها مسيحيون وتربطنا علاقات محبة وتعاون، وخلال سنوات عشت فيها خارج مصر كان كل الزملاء ثم الأصدقاء مسيحيين بالطبع، بل وكان أحدهم يهودي الديانة. وربما لم تهزني وفاة صديق قدر حزني لرحيل صديق العمر رءوف مسيحة، حتي إنني كتبت مقالة طويلة أرثي فراق رءوف نشرتها جريدة وطني، وربما أيضًا كانت أجمل سنوات العمر تلك التي عشت فيها ضمن ستة طلبة داخل شقة واحدة كنت المسلم الوحيد بينهم.. سنوات الشباب مع چورچ وفاروق وميلاد وعادل ورفقي، ومع الضحك والمقالب والفول والفلافل، وقلة المذاكرة وكثرة "الصعلكة"... كانت أيام. ربما لذلك كله لا أجد حرجا في الكلام أو الحوار مع قبطي دون كليشيهات مثلجة من نوعية: الوحدة الوطنية، عنصري الأمة، الهلال مع الصليب.. وهلم هتافا... فالأساس هو الوطن، والدين لله، والدين المعاملة، ولذلك كثيرًا ما تضحكني نكتة - حتي ولو لاذعة - تتعلق بمسلم ومسيحي، دونما أدني تكلف أو شبهة حساسية. وهناك عشرات النكات علي الأقباط والصعايدة والفلاحين، علي الشيوخ والقساوسة والمسلمين بالطبع، وكثيرًا ما ضحكت علي نكت تسخر من اليهود في نيويورك ذاتها مع أنها تحتضن أكبر تجمع يهودي في العالم، وظل عدد السكان اليهود بها أكبر من تعداد سكان إسرائيل حتي وقت قريب، كانت النكات بالطبع تطلق عليهم في غيابهم كونهم يسيطرون اقتصاديًا عمومًا. لكل ما سبق أشعر بنفور من أي متطرف أو متشنج.. مسيحيا كان أو مسلما، وأردد دوما عن قناعة تامة: لو أن المتعصب بذل نفس الجهد أو الفكر في نظافة الشارع مثلاً، في الإنتاج مثلاً، في إعمال الضمير مثلاً.. لكان لنا شأن آخر... ومن هو الأقرب إليك في مصلحة حكومية؟ من يقضي الوقت في "تخليص" أوراق الناس أم المتطرف؟ ومن هو الأكثر فائدة للبشرية المتشنج خطابة أم مكتشف البنسلين؟ ويزداد النفور إذا كان ذلك المتطرف مثقفا أو متعلما. لذلك يدهشني اهتمام البعض هنا أو هناك بإشهار إسلام مسيحي أو تنصير مسلم، مع أنه في كل الأحوال لن يتغير العالم أو تربح المسيحية أو يكسب الإسلام، أو تزول آلام الناس. وكان من الغريب ذلك العرض التنافسي الذي اختفي ثم بدأ يعود علي استحياء مؤخرًا.. وهو المتمثل في قيام مواطن بتعليق صليب علي زجاج سيارة يقابله اهتمام مواطن آخر بوضع المصحف فوق "التابلون". وقد يكون كلاهما أبعد ما يكون عن التدين الحق... في تعاملاته مع الآخرين عكس الذي تحث عليه كل العقائد. طافت بذهني تلك اللقطات وأحداث السنوات ثم حالات التناقض وربما الشيزوفرينيا المصرية المستحدثة التي حلت علي مصر منذ سنوات.. طافت مع غيرها عندما قرأت ما أسعدني جدًا جدًا.. أخيرًا الوحدة الوطنية بحق وحقيق راجع الكليشيهات كان الخبر في الجريدة يقول: في جريمة مثيرة "جامل" مسيحيان صديقهما المسلم بمشاركته في قتل مسلم آخر راجع مقولة أبونا، وقاموا بدفنه في مقابر الأقباط، حدث ذلك في قرية بني إدريس مركز القوصية منذ أيام حسب "روزاليوسف"، كان تعليقي العفوي يعني بتعرفوا تتعاونوا.. حسنا.. ليت ذلك يتحقق في كل المجالات و"نخلص" من هتافات وحرائق وتشنج خائب لا يفيد. صحيح.. عزت وأشرف المسيحيان تعاونا بكل الحب المحبة أقصد مع "علي" المسلم في ارتكاب جريمة قتل قتل ونعم التدين باذلين الجهد جميعًا لصالح الشر والخطيئة، الشيطان والخيبة. أليس كذلك؟ ألم يكن أجدي تحقيق التعاون لتحسين أحوال المعيشة أو البيئة أو الصحة، لدعم مركز الجنيه المصري والتعليم المصري والإسكان المصري؟ أم أننا بارعون فيما لا يفيد؟ لماذا لا تبذلون الجهد في إتقان العمل وتدعون الخالق يحاسب الجميع؟ هل الحكاية موضة مستوردة؟ أم هواية مستحدثة؟ أم مصدر استرزاق في الفضائيات؟ أم رغبة في تميز شكلي، وتباين مظهري ليس إلا؟ أتعجب كثيرًا لغياب منطق الوطن للجميع، والقانون سيد الجميع، وإن المساواة التامة هي الأساس والحساب العادل هو الأصل.. للمسلم أو المسيحي لصديقي سليمان شفيق بالإسكندرية أو للأخ علي في بني إدريس. دعونا يا سادة نهتم بالعمل.. دعونا نفيق قبل فوات الأوان.