انطوت الساعات والأيام كلمح البصر، ومرَّ العام الماضي كالشهر، ومرَّ الشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، وعاد رمضان بعد شوق طويل، وكأني ألمحه على الأبواب، فمرحبًا بشهر رمضان، فهكذا تُطوى الليالي والأيام، وتتقلص الأعداد والأرقام، وتنصرم الشهور والأعوام، والناس قسمان: قسم قضى نحبه، مرتهن بعمله، حسابه على ربه، وقسم ينتظر، فإذا بلغ الكتاب أجله، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. فطوبى لمن صدقت نيته، وطابت سجيته، وحسنت طويته، فكم من الناس من ينتظر شهر رمضان بلهفة وشوق، لينهل من بركاته، ويغترف من خيراته، فهو المعين الدافق، والنهر الخافق، وعندما يقترب الشهر من زواره، ويحل برُوَاده، تنقطع آجال أناس منهم، ويبقى آخرون. إن بلوغ رمضان لنعمة كبرى، ومنة عظمى، فواجب على كل مسلم مَنَّ الله عليه ببلوغ شهر رمضان، أن يغتنم الفرصة، ويقطف الثمرة، فإنها إن فاتت كانت حسرة ما بعدها حسرة ، وندامة لا تعدلها ندامة، كيف لا وقد دعا عليه النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ)[رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني]. وكل عام يتجدد الموعد مع هذا الشهر الكريم، فيحتفي به من يحتفي، ويحصد السعادة من جدّ في طلبها، ويغفل عنها من أطفأ المنبّه الداخلي في لحظات عبوره، فلم يستيقظ إلا بعد رحيله!! فأهلًا ومرحبًا بالضيف الكريم الذي سرعان ما يمضي. ويا أيها الأحباب، رمضان ليس مجرد شهر يعبر من الهلال إلى الهلال ويمضي دون أثر! رمضان هديّة من الرحمن.. شمس تشرق في الحياة، لتتوهج عبرها قناديل القلوب بنور آسر عجيب.. ويأتي رمضان.. فتهل معه الرحمة والمغفرة وعتق العباد من النار. وينبغي أن نشير إلى أن الحديث المشهور: (شهر رمضان أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار)، حديث ضعيف لا يصح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا سندًا - كما ذكر المحدثون - ولا معنًى، فهو يحصر الرحمة في عشر، والمغفرة في عشر، والعتق في عشر. ورحمة الله تعالى ومغفرته لا تنقطع، وعتقه لعباده من النار ، موجود على دوام الشهر، من أول ليلة، فهو يضيق ما وسعه الله تعالى على عباده. فرمضان في الحقيقة.. رحمة كله.. مغفرة كله.. عتق من النار كله. أما الرحمة: فقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ)[متفق عليه]، وفي رواية: (فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ)[مسلم]. أما المغفرة: فقد قال النبي(صلى الله عليه وسلم): (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)[رواه البخاري ومسلم]، وقال أيضًا: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدم من ذنبه)[رواه البخاري ومسلم]. أما العتق من النار: فلقوله (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ)[رواه الترمذي، وصححه الألباني]. أيها الأحباب.. أقبلوا على ربكم، فرمضان فرصة نادرة، ثمينة وغالية، فيها الرحمة والمغفرة، ودواعيهما متيسرة، والأعوان عليها كثيرون، وعوامل الفساد محدودة، ومردة الشياطين مصفدون، ولله عتقاء كل ليلة، وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة، (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النساء: 27].