في مصر عشرات الآلاف من أصحاب المعاشات الذين خدموا بلادهم عدة عقود وعندما بلغوا من العمر أرذله أهانتهم الحكومة علي أرصفة مكاتب البريد. وأبسط حقوق هؤلاء أن يجلسوا في بيوتهم معززين مكرمين وتصلهم معاشاتهم الضئيلة أساساً، مقابل خصم رسوم التوصيل، وهي فكرة لن تكلف الحكومة شيئاً لو أرادت أن تحفظ كرامة آبائنا في أيامهم الأخيرة. والواضح أن الصراعات السياسية المستعرة في البلاد حالياً جعلت الحكومة تتصرف بنفس عقلية الحكومات السابقة، ورغم أنها حكومة ضعيفة ومكسورة الجناح إلا أن «عينها الحمراء» ظهرت مع أصحاب المعاشات فقط. «الوفد الأسبوعي» تجولت علي مكاتب البريد بالقاهرة والجيزة لرصد حجم المأساة التي يعانيها أكثر من 8 ملايين من أصحاب المعاشات المنكسرين ويذوقون مرارتها، أمام مكاتب البريد شهرياً. من أمام مكتب بريد فرعي بولاق الدكرور بدأنا الرحلة، ووجدنا 600 رجل وسيدة ينتظرون لحظة القبض علي المعاش، في طابور طويل ينتهي شباك واحد يجلس خلفه موظف مسئول عن صرف المعاش للمئات في يوم واحد. «إحنا ناس محترمين ويجب أن نُعامل معاملة آدمية وجلوسي في الشارع بهذه الطريقة يتسبب في إحراجي مع المارة الذين يمدون أيديهم لي بالصدقات».. هكذا بدأت «س. ح» حديثها، قائلة: خدم زوجي الدولة 32 عاماً، حيث كان يعمل أمين شرطة بنجدة الجيزة، لكنهم لم يقدروا جهوده، وتعاملوا معنا كالمتسولين وليس كأصحاب حقوق، ولم تراع تقدمنا في السن ووضعنا الاجتماعي وأن لنا أسراً لا نريد أن يرونا في هذا الوضع، فلا أعرف ماذا أفعل إذا رآني زوج ابنتي أستاذ الجامعة وأنا أجلس في الشارع؟! وتضيف: استأجر «توك توك» ب30 جنيهاً ليوصلني إلي مكتب البريد ويعيدني إلي المنزل مرة أخري، وأنتظر بالساعات حتي يصل إلي الدور، وقد يغلق مكتب البريد أبوابه دون أن أقبض المعاش. رئيسة محمد «70 سنة»، حضرت إلي مكتب البريد مستندة إلي عصا وتتعثر قدماها ولا تري أمامها، لجأت بسرعة إلي أحد الأرصفة قبل أن تسقط أرضاً أسرعت نحوها وسألتها: لماذا جلست، ولم تحجزي دورك؟ قالت هذا هو اليوم الثاني لحضوري لقبض المعاش، فقد جئت أمس وأثناء وقوفي في الطابور دفعني أصحاب المعاشات بقوة فوقعت علي الأرض. وتضيف رئيسة: توفي زوجي منذ سنوات وساعدني الجيران في إنهاء إجراءات صرف المعاش، حيث أتقاضي شهرياً 100 جنيه لا تكفي مصاريف علاجي، وأطلب من الحكومة العلاج والمأكل وياريت تساعدوني أعيش وارحموا سني ولا تتعبوني أكتر من كده. تلتقط طرف الحديث مني عطية عبدالرحيم وتقول: حضرت إلي مكتب البريد منذ السابعة صباحاً ولولا زواج ابنتي التي حررت لها توكيلاً لصرف المعاش بالنيابة عني ما حضرت للقبض بسبب مرضي، فقد قمت بإنهاء أوراق صرف المعاش منذ نوفمبر الماضي، وأتقاضي 140 جنيهاً شهرياً أدفع منها 15 جنيهاً «توك توك» ذهاباً وإياباً، كما أنفق 100 جنيه كل 10 أيام علي علاج السكر والقلب والأعصاب. وتضيف: ظننت أن الثورة ستغير حالنا، ولكن هذا لم يحدث، وبدلاً من أن تراعي الحكومة سننا وعجزنا تذلنا يومياً علي الأرصفة وأمام مكاتب البريد. في حين تطالب وجيدة مدبولي «56 سنة» الحكومة بتوصيل المعاشات لأصحابها بالمنازل رحمة بالمسنين، فجميع من يتقاضي معاشاً متقدم في السن ويجب علي الدولة مراعاة ذلك. وتواصل: أصبت بورم خبيث في قدمي ومريضة بالسكر والضغط ولولا الحاجة لن أحضر إلي مكتب البريد، فمعاشي مقداره 130 جنيهاً أحضر شهرياً لصرفها، وبسبب وجود شباك واحد للصرف تحدث اشتباكات بين أصحاب المعاشات تدافع يؤدي إلي وقوع كبار السن علي الأرض بشكل غير لائق. في حين تطالب صفية عبدالحكم بفصل السيدات عن الرجال من خلال منفذين بدلاً من منفذ واحد لصرف المعاش، حيث يحدث تزاحم ويقع الرجال فوق السيدات فيجب احترام آدمية المواطن المصري. «خدمت في وزارة القوي العاملة 42 عاماً وبعد خروجي علي المعاش خصمت الحكومة المكافآت والبدلات ولا أصرف إلا الراتب الأساسي الآن، وقدرة 600، هكذا بدأ سمير عبدالله 62 سنة حديثه، مضيفاً أن الحكومة تعاملهم كما تعامل الخيل، فبمجرد أن نتقدم في السن تضربها بالرصاص فرفعت رواتب الأطباء والمدرسين وأساتذة الجامعات بنسبة لا تقل عن 200٪ وأصحاب المعاش لم يتجاوزوا 30٪. وأضاف عبدالله أن الأسعار مرتفعة والمعاش لا يكفي مصاريف علاجي ولا أعرف كيف أنفق علي أولادي في مراحل تعليمهم. ويقول رمضان إسماعيل محمد: عملت في هيئة النقل العام منذ عام 76 وخرجت علي المعاش في 2008 لأتقاضي معاشاً لا يتجاوز 540 جنيهاً فقط، ولي ابنة مقبلة علي الزواج لا أعرف كيف أجهزها، فالمعاش لا يكفي ثمن فواتير المياه والكهرباء والغاز، ورغم ذلك نقضي ساعات طويلة أمام مكاتب البريد وكأننا نتسول هذه الجنيهات. واجهنا مدير مكتب بريد بولاق الدكرور بالأزمة، فقال: إنه لا يستطيع فتح منفذين لصرف المعاش، فالتأمينات ترسل كشفاً مختلطاً بأسماء من يستحقون المعاش السيدات مع الرجال ونحن جهة صرف فقط وعلي التأمينات إرسال كشفين أحدهما للسيدات والآخر للرجال وسنفتح منفذاً إضافياً. وعن سبب عدم توصيل المعاشات للمنازل، قال: نحن ننفذ القانون الذي يسمح بتوصيل المعاش لمن يتجاوز سنه السبعين ولا يسمح بتوصيل المعاش لمن تحت هذه السن.