رغم أن شكوكا واسعة انتابت التونسيين بسبب الغموض الذي غلف المشهد السياسي بعد الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي في يناير الماضي, فإن المؤشرات على أرض الواقع ترجح أن هذا البلد الذي فجر الشرارة الأولى في ثورات الربيع العربي بات على بعد مرمى حجر من تحقيق الديمقراطية والاستقرار. ففي 23 أكتوبر, يدلى التونسيون بأصواتهم لانتخاب أعضاء المجلس الوطنى التأسيسى الذي سيتولى تعيين رئيس مؤقت وحكومة تصريف أعمال وسيشرف على صياغة دستور جديد للبلاد, بالإضافة للإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية. ويتنافس في هذه الانتخابات نحو 11 ألف مرشح من أكثر من 1600 قائمة حزبية ومستقلة وائتلافية في 27 دائرة انتخابية في الداخل و6 دوائر للتونسيين بالخارج للفوز ب 199 مقعدا بالداخل و18 مقعدا للخارج, ليضم المجلس التأسيسي المرتقب 217 عضوا. وأعلنت وزارتا الدفاع الوطنى والداخلية في 19 أكتوبر أنه تم الدفع ب 22 ألف عسكرى وحوالي 20 ألفا من رجال الأمن الداخلي من أجل تأمين حسن سير انتخابات المجلس الوطني التأسيسي, بالإضافة إلى تخصيص 2500 وسيلة نقل بري و14 وسيلة نقل جوي وقاربا بحريا لنقل صناديق الاقتراع وكافة متطلبات العملية الانتخابية. وبالنظر إلى أن قانون الانتخابات الماضية كان مصمما خصيصا لتثبيت الرئيس المخلوع بن علي في الحكم وإقصاء معارضيه، فقد اتخذت السلطات التونسية كافة الإجراءات الضرورية لضمان نزاهة انتخابات 23 أكتوبر ومن أبرزها : مشاركة حوالي 80 حزبا في انتخابات المجلس التأسيسي وذلك للمرة الأولى في تاريخ تونس . أيضا، فإنه لأول مرة, تستجيب الانتخابات للمعايير الدولية من حيث استقلالية الإشراف عليها وتعدد الترشحات والتكافؤ في الفرص بين المتنافسين . فمعروف أن القانون الانتخابى السابق كان يمنح وزارة الداخلية سلطة الإشراف على الانتخابات, وبالنظر إلى أنه طالما وجهت لها اتهامات بأنها كانت أداة لتزوير نتائج الانتخابات للتمديد للرئيس السابق زين العابدين بن علي، الذي حكم البلاد طيلة 23 عاما, فإن القانون الجديد لانتخابات التأسيسى ضمن المساواة بين المرشحين المستقلين وممثلي الأحزاب السياسية وعزز مشاركة المرأة والشباب وذلك عبر الهيئة العليا المستقلة لتنظيم الانتخابات. فقد تم تكوين هيئة عليا مستقلة لتنظيم الانتخابات من داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وضمان الانتقال الديمقراطي وتم فصل تلك الهيئة فصلا تاما عن أجهزة الدولة وحتى الاستقلال المالي أيضا تجنبا للتجارب السابقة التي جعلت من الإدارة طرفاً في الانتخابات, ما أثر على نتائجها من خلال التزوير . إلغاء البطاقة الانتخابية ولعل ما يطمئن التونسيين أكثر وأكثر تجاه حيادية الهيئة, التي حلت مكان وزارة الداخلية, أنه يرافقها في الإشراف على الانتخابات مراقبون أجانب ومحليون, كما أنه يشترط أن يتوافر في أعضائها عدم الانتساب لأي حزب سياسي لضمان الاستقلالية وعدم التورط مع النظام السابق, بل وتم انتخاب رئيسها وهو كمال الجندوبي من بين الشخصيات المعارضة وكان مضطهداً ومقيماً في أوروبا وهو شخص حقوقي. وبالإضافة إلى ما سبق, فقد ألغيت البطاقة الانتخابية والتي كانت وسيلة للإدارة لإقصاء الناخبين الذين لا يتماشون مع تيار النظام السابق وقررت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أن تكون ممارسة الحق الانتخابي بمجرد إظهار بطاقة التعريف الوطنية أو جواز السفر بالنسبة للتونسيين المقيمين في الخارج. ورغم أن هناك مخاوف من طغيان لون واحد على مؤسسات الدولة التونسية من خلال المجلس التأسيسى بعد أن أعطى آخر استطلاع للرأي حول نوايا التصويت الأولوية لحزب النهضة الإسلامي المعتدل بنسبة لا تقل عن 22%، فإن هناك عدة حقائق من شأنها أن تطمئن الجميع بأنه لارجعة لديكتاتورية الفكر الواحد . فقانون الانتخاب الذي تم اعتماده بالنسبة لانتخابات المجلس التأسيسي اعتمد على النسبية وبالتالي ضمان عدم استيلاء أي تيار سياسي أو حزب على المجلس, خلافا لنظام الأغلبية الذي كان من يحصل على "1 +50" يستولى على نسبة كبيرة من المقاعد, في حين تحصل كل القوى السياسية في نظام النسبية على عدد من المقاعد يتناسب مع نسبة الأصوات التي حصلت عليها, وهذا يضمن أوسع تمثيل للمجتمع السياسى والمدنى. صحيح أن المنافسة تنحصر بين حزب النهضة, الداعى إلى منح الشريعة الإسلامية دورا أكبر في تنظيم الحياة العامة في البلاد وبين الأحزاب العلمانية التي تنادي بحصر ذلك الدور, إلا أن حزب النهضة لن يتمكن من تشكيل حكومة بمفرده في حال حصل على نسبة 22% وسيلجأ بالضرورة للتحالف مع قوى سياسية أخرى, بل وقد يتم تشكيل أغلبية مضادة له من الأحزاب العلمانية والليبرالية. ويبقى الأمر الأهم الذى من شأنه أن يبعث على الطمأنينة أكثر وأكثر ألا وهو توقيع 11 حزبا على وثيقة أطلق عليها "إعلان المسار الانتقالى" وتكشف عن وجود استعداد أدنى لتلك الأحزاب للتوافق حول خارطة الطريق لمرحلة ما بعد 23 أكتوبر بعد انتهاء مفعول خارطة الطريق الحالية, التي ستتوج بانتخاب المجلس الوطني التأسيسى. وبالرغم من أن وثيقة "إعلان المسار الانتقالى" اكتفت بالتأكيد على أن لا تتجاوز مدة المجلس التأسيسى السنة وتجنبت الخوض في كيفية التوافق حول تشكيل الحكومة القادمة والتي يتوقع أن تمثل مشكلة كبيرة بعد انتخابات 23 أكتوبر, إلا أن كثيرين يرون أن الوثيقة قد تفتح الباب أمام التغلب على هذه العقبة بعد أن يتأكد كل طرف من حجمه الحقيقي داخل المجلس التأسيسي. وبصفة عامة, فإن كافة المؤشرات ترجح أن تونس تسير بخطى واثقة على طريق تأسيس ديمقراطية حقيقية, بل وهناك من يرى أنها كما كانت مفجرة الشرارة الأولى في ثورات الربيع العربي, فإنها بصدد تحقيق إنجاز جديد يحتذى به , حيث تلافت الجدل الذي شهدته مصر الثورة بين "الدستور أولا" أو "الانتخابات أولا" وانحازت للخيار الأفضل لاختصار أمد المرحلة الانتقالية والإسراع بتحقيق الاستقرار وبناء الدولة عبر انتخابات المجلس التأسيسي .