لا أشك أن من أول ما تطلع إليه البشر حين كونوا مجتمعاتهم الأولي: المساواة، المساواة بين أفراد طبقة أو فئة أو جنس خاص. ومع ازدياد هذه المجتمعات استقرارًا وتحضرًا وتثقفًا اتسع تصورهم لمجال المساواة إلي أن نادت الديمقراطية بمنحها لجميع البشر. وكان لذلك صداه الطبيعي في دساتير الأقطار المتعددة، فكانت المساواة من مبادئها الأولي، وكذا كان الحال في دستور مصر. ولكن ظاهرة تلفت النظر أخذت تنتشر بين فئات من المجتمع المصري، وتلتف حول مبدأ المساواة، فقد شعرنا أولاً بأن فئات من مجتمعنا أخذت تستولي علي وظائف معينة لا يعين فيها إلا أبناؤها وأقاربها، ومضي الزمن فصرنا علي يقين بأن هذه الفئات تحتكر الوظائف لمن أشرت إليهم، وتسلك كل السبل القانونية وغير القانونية لتحقيق هذا الاحتكار، والحيلولة دون تسرب غيرهم إلي ما احتكروه، تم ذلك خفية، أو ظنوا إخفاءه، أعني دون إعلان، وإن كان جميع أفراد المجتمع يعرفونه. والأمر الجلل الذي يكاد لا يصدق أن واحدة من فئات المجتمع المصري، أظن ذلك وإن كنت لست علي يقين من مصريتها، انتهزت هذه الفئة الخلل الذي اعترف المجتمع المصري، بسبب تخلصه من نظام قديم وبدئه نظامًا جديدًا. انتهزت فرصة هذا الخلل الطبيعي، ورفعت الصوت تنادي بإسباغ القانونية علي هذا الاحتكار. والأمر الجلل الذي يكاد لا يصدق أن يكون القضاة أصحاب هذه الدعوة فتستخف فئة منهم بكل من في المجتمع المصري من طبقات وأعلام وقيم وتنادي علانية بالنص في قانون القضاة علي: - تفضيل أبناء المستشارين علي غيرهم عند التعيين في السلك القضائي. - غض النظر عن التقدير العلمي الجامعي الذي حصل عليه المتقدمون لهذه الوظائف، إن كان تقدير أبناء المستشارين أقل من تقدير منافسيهم. - توزيع ما يبقي من وظائف - إن بقي شيء - توزيعه حسب التقدير علي المنافسين. وبرر بعض أصحاب هذه الدعوة دعوتهم: 1- بأن عملهم يشغلهم عن العناية بأبنائهم ورعايتهم. وكأن القضاء العمل الوحيد الذي يفعل ذلك وأهملوا أن بعض الأعمال الأخري أشد شغلاً للآباء عن رعاية أبنائهم. 2- وإن واجب الدولة أن تقدم لهم - من أجل ذلك - رعاية أشد. وما قدمت حالاً يبطل هذا القول، ويؤدي إلي الحق بأن رعاية الدولة لأبنائها واجب فعلاً ولكن نحو جميع أبنائها لا أبناء فئة معينة. ونسي أصحاب هذه الدعوة أو جهلوا أو تجاهلوا: 1 - انهم أبناء هذا الشعب وان كانوا يعتقدون انهم أجانب عنه أو من طبقة أعلي من طبقاته فليبحثوا اذن عن وطن غير وطن الشعب المصري الذي يستنكفون أن يكونوا منه. 2 - وأن هذا الشعب المصري هو الذي كدح وما يزال يكدح ليوفر لهم ولكل من يعيش معه من أبناء وطنه: أسباب الوجود والبقاء والارتقاء والترف والزهو الشخصي والعام. 3 - وأن هذا الشعب هو الذي أوجد مناصبهم وهو الذي عينهم فيها وهو الذي يمنحهم أجورهم لاداء أعمالهم. 4 - وأن أول واجبات القضاء: اقامة العدالة والتي لا تتحقق إلا بالمساواة بين البشر - علي اختلاف مقارهم وأجناسهم وعقائدهم وأفكارهم...الخ. 5 - وأن من أول ما يؤديه من يتولي القضاء: القسم بالحرص علي العدل. 6 - وأن أي خروج عن العدالة أو إخلال بالمساواة أو احتيال علي تكافؤ الفرص انما هو حنث بالقسم وانتهاك للعدالة. 7 - وأن تلبية الدعوة تغري غير القضاة من فئات المجتمع للاحتذاء بهم مما يؤدي الي طبقات متعددة في المجتمع تدعي كل منها التميز والي ايجاد مجتمع شبيه بمجتمعات العصور الوسطي تنفرد كل جماعة فيه باحدي الحرف. 8 - ولعل أسوأ نتائج هذه الدعوة قتلها الطموح عند ناشئة المجتمع إذ يرون دونهم يحرمونهم من ثمار ما عانوه دون حق علي الاطلاق.